«صاحب مصر».. عندما ضعف العقل فاستسلم للخرافة! (1) - وليد فكري - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 4:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«صاحب مصر».. عندما ضعف العقل فاستسلم للخرافة! (1)

نشر فى : الإثنين 24 فبراير 2014 - 7:30 م | آخر تحديث : الإثنين 24 فبراير 2014 - 7:30 م

مدينة الطائف – حوالي 610 ميلادية..

الناس ينظرون للسماء برعب وصرخاتهم تتعالى كل حين مع نجم جديد يمرق عبر المساحة السوداء هاويًا.. بعضهم يودّع أهله وقد أيقن بزوال العالم، بينما سارع أثرياؤهم لإعتاق عبيدهم وإطلاق دوابهم تقربًا إلى الإله ليرفع الهلاك عنهم..

رجلٌ واحد يقف ثابتًا متمالكًا نفسه.. إنه عبدليل بن عمرو.. يقترب أحدهم منه سائلًا بصوت مرتجف: "ماذا نفعل يا سيد الناس؟! قد أتلفنا الخوف وذهبت نفوسنا!".

يلتفت وقد علت شفتاه ابتسامة مشفقة ثم يجيب: "أمسكوا مالكم وأنعامكم وعبيدكم! وانظروا إلى النجوم التي تهوي.. فإن كانت المعروفة التي يستدل بها المسافر فهو والله انطواء الدنيا.. وإن كانت غيرها فهو أمر جلل أريد بالدنيا"

تمتم محدثه وراءه: "أمرٌ جلل؟"

-"بلى.. هو موت مَلك.. أو ميلاد ملك.. أو أمر أعظم من ذلك! فتمهّلوا وانظروا!"

في ذلك الوقت.. في بعض الجبال المحيطة بمكة، كان رجل أربعيني معتدل البنيان يعلوه الوقار قد اختلى بنفسه للتعبُد ليسمع صوتًا أخرجه من صمته يقول له "اقرأ!"

***

محيط مكة – عام الحديبية:

أزاح عبدالله بن أبيّ بن سلول غطاء خيمته.. نظر إلى الأرض فوجدها قد تبللت برذاذ بسيط فنظر إلى السماء ليلمح غمامًا خفيفًا.. تمتم "قد مطرنا بنوء الشعرى" (أي قد أمطرت السماء لظهور نجم الشِعرَى) رمق باستهزاء المسلمين وهم مصطفون لصلاة الصبح وراء الرسول- صلى الله عليه وسلم- الذي ختم الصلاة ثم جلس يعظ المؤمنين فقال: "هَلْ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ رَبُّكُمْ تَعَالَى؟ قُلْنَا: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ ذَلِكَ ثَلاثًا, ثُمَّ قَالَ: "قَالَ رَبُّكُمْ: أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا وَنَجْمِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِالنَّجْمِ كَافِرٌ بِي، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ بِي كَافِرٌ بِالنَّجْمِ".

***

"عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب، في رجال من يهود، برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هدى للمتقين} [البقرة: 1، 2] فأتى أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون- والله- لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عليه: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك: {ألم * ذلك الكتاب لا ريب}؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى". فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: "نعم". قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك.

فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: "نعم"، قال: ما ذاك؟ قال: "ألمص"، قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: "نعم" قال: ما ذاك؟ قال: "ألر". قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: "نعم"، قال: ماذا؟ قال: "ألمر". قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه.

ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره".

(تفسير القرآن العظيم- ابن كثير- في تفسير قول الله تعالى "ألم")

***

مصر- سنة 2014:

إعلاميون مشاهير يقدمون للجمهور أناسًا يحملون ألقابًا مبهمة مثل "نوستراداموس العرب"، "خبيرة علم الجفر"، "أستاذ متخصص في علم الفلك"..إلخ.. المثير أن هؤلاء ليسوا ضيوفًا على بعض برامج المنوعات الخفيفة أو الغرائب والطرائف.. هؤلاء ضيوف برامج سياسية تناقش قضية خطيرة جدًا: من هو رئيس مصر القادم.

بعضهم يقولها تلميحًا أو تصريحًا.. كلام من نوعية "النجم الفلاني ظهر يوم ميلاد الزعيم عبدالناصر، وتكرر ظهوره يوم ميلاد المشير السيسي" أو "لو حسبنا الأرقام المقابلة للحروف الفلانية في مربع الحروف بكتاب الجفر لوجدنا أن السيسي هو صاحب مصر"..

وبالمناسبة.. ضعوا عدة خطوط تحت "صاحب مصر" هذه فسنعود إليها!

***

معظم هؤلاء "الخبراء" يتحدثون بتلك الثقة من منطلق أنهم متخصصون في "علم محترم" كعلوم الطب والفيزياء والكيمياء وغيرها.. ما موضوع هذا العلم المحترم؟ موضوعه هو كيفية معرفة المستقبل من خلال بعض العمليات الحسابية بالأرقام والأبجدية، واسم صاحب الشأن مع مراعاة وضع البروج السماوية وحركة النجوم وموقع القمر..

وبعضهم لا يكتفي بإضفاء الطابع العلمي الرصين على هذا المجال، بل إنه يلبسه عباءة دينية تضفي عليه قدسية ربانية.. فهو ينسبه لـ"كتاب الجفر" المنسوب للإمام علي بن أبي طالب شخصيًا!

هذا الكتاب يعتمد في نشأته على أسطورة تقول إن الإمام علي- رضي الله عنه- تلقى من الله منحة ثمينة بأن فتح له أبواب الغيب، وأطلعه على ما في اللوح المحفوظ، فتكشفت له ما تكون في المستقبل من أمور وما يحل بالأمة من خير وشر حتى آخر الزمان.. فقام الإمام بكتابة "شفرة" التوصل لتلك المعرفة الثمينة في كتاب من جلد الحيوان، ليكون ميراثًا لمن أنعم عليهم الله بالمنزلة العالية والاقتراب من ملكوته!

وبقراءة هذا الكتاب تجد نفسك أمام بحر من الطلاسم، والكلام المسجوع أو المكتوب شعرًا، والنصائح والتوجيهات حول معاني التقاء حروف معينة بأرقام معينة في مربع أشبه بذلك الخاص بلعبة السودوكو.. إضافة لذلك فثمة نسخ بها توقعات هذا العلم لأحداث كل عام- مكانًا وزمانًا- بناء على مواقع النجوم والأجرام السماويةـ أو حلول الأول من الشهر العربي متوافقًا مع هذا اليوم أو ذاك من أيام الأسبوع.

لا داعي إذن لأن نتعب أنفسنا في الاستماع للمحللين السياسيين أو قراءة توقعات الأرصاد الجوية أو الانتباه لتحذيرات الأطباء من هذا الوباء أو ذاك.. فالسادة علماء "الجفر" قد أغنونا عن كل ذلك.. يكفي أن تعرف أين موقع القمر من الجوزاء والمريخ لتكتب جدولًا بـ"الفاعليات" الكونية والسياسية والبيئية لهذا العام.

من المألوف أن تجد لدى مختلف الحضارات والثقافات نوعًا من الولع بالتنبؤ، والبحث في أسرار الغيب.. ففي بابل القديمة كانوا ينظرون في أكباد الأضاحي، وفي مصر الفرعونية كان الكهنة يحتجبون في المعابد ليخرجوا بالنبوءات المستقبلية ورسائل الآلهة، وفي أوروبا العصور المظلمة كانوا ينظرون في صفحة الماء أو في لهب النار ليروا أحداثًا مقبلة، وفي جزيرة العرب قبل الإسلام كانوا يستمعون لسجع الكُهّان ويترجمونه في توقعات لأمور جليلة قادمة.. بالمناسبة، جدير بالذكر أن لغة هذا الكتاب- الجفر- الذي يُسنِده أصحابه للدين هي شديدة التشابه إلى حد يكاد يبلغ التطابق مع لغة حديث كهنة ما قبل الإسلام في مكة والطائف واليمن.. نفس الحديث الذي نفاه كفار قريش أنفسهم عن اللغة التي نزل بها القرآن حين قيل لهم "نقول أن محمدًا كاهن" فقال بعضهم" ما هو بسجع الكُهان"!

طبعًا من يقرأ كتبًا تناولت "أحداث نهاية الزمان" أو "ما جاء في الأحاديث الشريفة من تنبؤات مستقبلية" ككتاب الإمام ابن كثير "النهاية في الفتن والملاحم" يمكنه أن يعرف الفرق بين تخصص ديني يقوم على الأحاديث التي بذل المتخصصون الجهد في التحقق من صحتها- سواء اتفقنا معهم في تصديقها وإسناداتها أم لا- ومجال يحاول "حشر" نفسه في العلوم الدينية بينما هو يقوم على أمور حاربها الدين نفسه.. وأحيل القارئ للفقرات الثلاث الأولى ليعرف رأي الدين في مثل هذا الشيء الذي يسمونه علمًا.. وإنني لأتساءل: لو كان الإمام علي قد نال حقًا هذا العلم بالمستقبل فكيف لم يعرف أمورًا أثرت في مستقبل الأمة بعد ذلك كنتيجة التحكيم بينه وبين معاوية أو كحادث اغتياله أو توريث الحكم ليزيد أو استشهاد الحسين..إلخ..؟

***

وعودة لتعبير "صاحب مصر".. فإننا لو فرضنا "علميا" نتائج الحسابات التي يخرج بها المشتغل بالجفر، وارتباط هذا العلم بالمسطور في اللوح المحفوظ فهذا يعني أن تلك النتائج "لا تنطق عن الهوى".. بالتالي فإن الذي توصل لتلك النتيجة قد وجد تعبير "صاحب مصر" مكتوبًا كما هو بنفس الطريقة..

ولقد ذرعتُ كتب المؤرخين بحثًا عن هذا التعبير "صاحب مصر" فلم أجد له مثيلًا.. يمكنني أن أحيل القارئ لكتب المؤرخين التي تناولت حكام مصر وتضمنت ألقابهم وصفاتهم مثل "ولاة مصر" لمحمد بن يوسف الكِندي، "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لأبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للإمام جلال الدين السيوطي، "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس الحنفي.. وغيرها.. فلم أجد لحاكم مصري هذا اللقب "صاحب مصر".. يمكنك أن تجد ألقابًا أو نعوتًا مثل "والي مصر"، "عزيز مصر"، "سلطان البرّين"(مصر والشام- العصر المملوكي).

وبالبحث عن تعبير "صاحب" على مستوى الدول فوجئت بأمر طريف: هذه الصفة عندما كان يتم تناول أحد الحكام بها فإن هذا كان يكون على سبيل التقليل من شأنه أو التصغير له أو الدلالة على أن حكمه مجرد أمر عارض..

فتأمل معي هذا الموقف.. عندما تلقى هرقل إمبراطور بيزنطة (الروم) رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم له وقد تضمنت "إلى هرقل صاحب الروم" فغضب ابن شقيق القيصر وقال له: "قد سماك صاحب الروم" (مما يعني أنها تقليل لشأنه) فأجابه هرقل: "وأنا صاحبهم ولو شاء الله لسلطهم عليّ كما سلّط الفُرس على كسرى"..

كذلك في بعض كتب المؤرخين سالفي الذكر عن حُكام المدن الشامية وجزيرتي قبرص وكريت التي احتلها الفرنجة خلال الحملات الصليبية كان بعضهم يذكر هؤلاء بـ"صاحب مدينة كذا" كـ"صاحب عكا" و"صاحب قبرص" و"صاحب حسن كذا".. أي أنه كذلك كان تعبيرًا يوصف به الحاكم المحتل.

نحن إذن أمام حالة يصعب على المرء أن يختار فيها بين أن يضحك من المفارقة، حيث أراد صاحبها أن ينال الحظوة، وأن يظهر بمظهر العالم الخبير فوقع في شر أعماله (لقب تصغير أو لقب محتل؟!! الاثنين معًا؟!!) أو أن يبكي على ما أصاب كلا من العلم والإعلام من إهانة بالانحدار إلى هذا المستوى!

***

ولأننا في كل ما سبق كنا نتحدث عن "المُرسل"، سواء كان هؤلاء "الخبراء" أو الإعلاميون الذين قدموا هؤلاء لجمهور من المشاهدين أغلبهم من أصحاب الثقافة المتوسطة أو-عفوًا للحقيقة المؤلمة-الأقل من المتوسطة، فإن الحديث عن المُرسِل لا يكفي.. فلا بد أن نتطرق لـ"المتلقي" وأن نسأل أنفسنا: كيف يستسلم الناس لتصديق هذه الأمور؟!

للحديث بقية إذن...

(يُتبَع)

التعليقات