شال سابين - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شال سابين

نشر فى : السبت 24 فبراير 2018 - 9:40 م | آخر تحديث : السبت 24 فبراير 2018 - 9:40 م

المعرض المقام حاليا في قصر عائشة فهمي بالزمالك والذي يضم مجموعة متحفية نادرة من النسيج القبطي والإسلامي نقلني في لمح البصر إلى مدينة أنطيونوبوليس القديمة التي أمر ببنائها الإمبراطور الروماني هادريان، في القرن الثاني الميلادي، على الطراز الهيليني، لتخليد ذكرى صاحبه أنطينووس الذي غرق في النيل وهو يحاول إنقاذ حياته، ولا تزال أطلالها موجودة حتى الآن وتعرف حاليا باسم الشيخ عبادة بمحافظة المنيا أو بالقبطية قرية أنصنا، إحدى قرى مركز ملوي. وذلك لأن الكثير من النسيج القبطي المعروض هنا في مصر أو في أماكن كثيرة حول العالم تم اكتشافه في جبانة هذه المدينة التي ذاع صيتها ابتداءً من القرن الخامس الميلادي نظرا لعدد أديرتها وكنائسها وقديسيها. وبمراجعة تاريخ هذه الحفائر وملابساتها نفهم لماذا وصلتنا هذه المنسوجات في شكل قطع صغيرة (حشوات ومربعات وشرائح) دون أحجامها الطبيعية. ونفهم أيضا تعبير "مصر نسيج واحد"، بما أنها متتالية من الطرز والعصور تداخلت مع بعضها البعض فصار من الصعب ومن المفتعل محاولة الفصل بينها، والقطع المتحفية المعروضة هنا وهناك تجسد هذا المعنى برقي، فهناك اندماج بين الموروث الشعبي والوثني، وجماليات الفن القباطي التقليدي الذي يعتمد النسيج على النول دون طبع أو تطريز، والأساطير الفرعونية التي تم تطويعها لخدمة المسيحية، وهناك تواصل مع العصر الإسلامي والبيزنطي، جعل التأثيرات المتبادلة تظهر خاصة في بدايات الفتح العربي لمصر.

***

بدأت القصة عندما لفتت مدينة أنطيونوبوليس نظر رجل الصناعة الفرنسي إميل جيميه المهتم بانتشار ديانة إيزيس تحت حكم الرومان، من خلال ما ورد عنها في كتاب "وصف مصر" الشهير. وعندما زار الموقع في نهاية القرن التاسع عشر، ساورته الشكوك بشأن ما قد تخبئه هذه المدينة العتيقة في أحشائها، وبالتالي لجأ إلى مساعدة عالم المصريات ألبير جاييه الذي جاء إلى المنيا وشرع في العمل، فأزال الركام عن بقايا معبد نسب لرمسيس الثاني، وكشف عن جبانة ضخمة ضمت رفاة أربع حضارات متعاقبة امتدت إلى أكثر من خمسة قرون. واستمرت حفرياته قرابة أحد عشر عاما، احتاج خلالها إلى دعم مادي من أطراف متعددة، كان لكل منها نصيب من القطع الأثرية المكتشفة خاصة قطع النسيج القبطي، ما يفسر توزيعها على المتاحف والدول المختلفة، إذ تشاركوا جميعا في الغنائم بمن فيهم بعض الأعراب وأبناء البلد الذين كانوا يقومون بتقسيم المنسوجات القبطية إلى قطع صغيرة يسهل حملها وبيعها، لذا قليلا ما نجدها كاملة.

عثر ألبير جاييه على أكثر من ألفي مقبرة من عصور مختلفة، كان من أشهرها مقبرة سابين، النبيلة التي تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الرومانية، والتي عرفت بسبب الشال الذي دفنت به والموجود حاليا أجزاء منه في متحف اللوفر بباريس ومتحف الفنون الجميلة بفرنسا ومتحف النسيج في مدينة ليون، أما الجزء الرابع من الشال الذي يصل إجمالي طوله لسبعة أمتار فقد تنقل من ملكية خاصة إلى أخرى. وتبعا للتقاليد السائدة وقتها كان يتم دفن الميت وقد ارتدى عدة طبقات من ثيابه المختلفة، يزداد عددها بحسب مكانته الاجتماعية، ثم يتم لف الجسد بعدها بكفن أبيض أو اثنين. وقد كانت روعة ثياب سابين هي ما جذب الانتباه إليها، وجعلها محط أنظار ودراسة المتخصصين منذ اكتشاف مقبرتها عام 1903، إذ ارتدت فستانا من الصوف الوردي، عليه حرملة حريرية، ومن فوقهما شال أحمر مزين بمربعات فريدة مليئة بالتفاصيل، يجسد كل مربع منها مشهدا مختلفا: محاكاة لقصص دينية، مناظر من الطبيعة ورحلات الصيد، إلى ما غير ذلك، وزينت رقبتها بعقد من اللؤلؤ وحجر الجمشت الكريم.

مزيج من الديانات والتأثيرات البيزنطية والوثنية والساسانية (من بلاد فارس) والفرعونية والمسيحية تداخلت بمنتهى التناغم لتخلد ذكرى هذه النبيلة التي عاشت في القرن الخامس الميلادي حين كان فن النسيج القباطي في أوجه، وحين تحول أغلبية السكان للديانة المسيحية التي صارت الأكثر انتشارا. لذا نلاحظ أن العديد من القطع المعروضة حاليا في معرض النسيج بقصر عائشة فهمي بالقاهرة تنتمي للقرن نفسه، فالفترة من القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس تعد مرحلة تطور الفن القبطي وتأثره بالزخارف الوثنية، والفترة الممتدة من بعدها إلى القرن الثامن تعتبر مرحلة ازدهار الزخارف المسيحية، أما من نهاية القرن الثامن إلى نهاية القرن الثاني عشر فقد تداخلت عناصر الفن القبطي والإسلامي.

***

نلمح من خلال قطع النسيج العيون الواسعة التي ترمقنا بعمق، والزخارف ذات الألوان الطبيعية: اللون الأصفر المشتق من الزعفران أو زهرة اللوتس، والأرجواني من نبتة الفوة، والأزرق من عشبة الوسمة، المعروفة بورق النيل... فاختلاف الألوان والأصول كان عنصر ثراء دائم، ويجب أن يظل هكذا، دون محاولات طمس متعمدة، تغير اسم مكان لتنفي عنه هويته أو تهمل تاريخه لمجرد ارتباطه بحضارة أو ديانة بعينها، فكل مربع من شال سابين يعكس مشهدا مختلفا، ومجموع المربعات الصغيرة الملونة مذهل في جماله.

التعليقات