عندما فرض الحلفاء المنتصرون فى الحرب العالمية الأولى شروطهم على دول المحور ممثلين فى الدولة العثمانية وألمانيا وإيطاليا، كانت تلك الشروط من الإذلال ما جعل بعضًا منهم يسعى إلى الانتقام من الشروط المجحفة التى فرضت عليهم، وهو ما تسبب فى نشوب الحرب العالمية الثانية، سعيًا من ألمانيا إلى استعادة مجدها مرة أخرى، فاحتلت كل من النمسا وبولندا، وهيمنت على جزء معتبر من إنجلترا وفرنسا والاتحاد السوفيتى.
صحيح أنه قد فرضت شروطًا ما زال بعضها قائما على الدول المهزومة فى تلك الحرب جعلها تتجه نحو الخنوع لمطالب المنتصرين، إلا أن بعض تلك الدول كاليابان وألمانيا استغلت تلك الشروط بالعمل على الكمون العسكرى، والانطلاق نحو تقدم اقتصادى، حتى أصبحت الأولى عملاقًا اقتصاديًا كبيرًا فى الشرق الأقصى، وأصبحت الثانية أكبر قوى اقتصادية فى أوروبا الغربية.
بنفس المنطق سعت البلدان الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة للنيل من هيبة الاتحاد السوفيتى عند تفككه فى ديسمبر 1991، فقامت بفرض شروطها على هذا التفكك، فتوسع حلف الناتو شرقًا، وضم على مدى عدة سنوات بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. كما انضمت عديد دول الاتحاد السوفيتى السابق إلى الاتحاد الأوروبى. كل ما سبق تم سعيًا من بعض الدول المستقلة إلى نيل حماية الحلف أو حماية البعض الآخر للاتحاد الأوروبى، وذلك من أى سطوة محتملة لروسيا بعد أن تلملم جراح تفكك الاتحاد السوفيتى.
هذه الهيبة المندثرة سعت روسيا اليوم إلى محاولة استعادتها بأن قامت بغزو أوكرانيا، مستغلة الفرصة بأن تلك الدولة ليست عضوًا فى حلف الناتو، وأنها ليست عضوًا بالاتحاد الأوروبى. وقد حفزت الولايات المتحدة، التى حنثت بوعودها فى عام 1991 بعدم توسع الحلف شرقًا، فشجعت روسيا على تلك العملية العسكرية الواسعة، بأن عمدت إلى غمس قدمها فى الأوحال الأوكرانية، ثم العمل على فرض عقوبات لا مثيل لها على روسيا بغية عودتها إلى وضعها القزمى بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، وذلك كله أملا فى ألا تقوم لها قائمة إلا بعد عقود جديدة كما فعلت عام 1991، وهو ما يبدو أنها فشلت فيه حتى الآن حيث ارتدت عديد العقوبات إلى نحور من فرضها فى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، وامتدت تداعياتها لعديد البلدان النامية.
من ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة التى سعت مع القوى المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية ومنها الاتحاد السوفيتى عمدت إلى تأسيس نظام دولى جديد استند لوجود قطبين كبيرين، تعمق وجودهما فى الساحة الدولية بتلك الصفة أثناء الحرب الباردة؛ حيث انقسم العالم إلى معسكرين ندين كبيرين. هذا التأسيس استمر لأربعة عقود ونيف، وجمدت خلاله نشاط الجهاز الأممى ممثلا فى هيئة الأمم المتحدة منذ عام 1945، كنتيجة للحرب الباردة، على النحو الذى حدث فى عجزه عن مواجهة اندلاع أزمات دولية كأزمة كوريا وأزمتى السويس وخليج الخنازير (الصواريخ الكوبية) وقبلهم أزمة برلين.
من هنا كانت الحرب الروسية الأوكرانية سعيًا من الطرف الأول إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتى، ورغبة فى تعديل أو إصلاح الكفة التى مالت كثيرًا منذ العام 1991 تجاه الولايات المتحدة التى أغراها ضعف روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، وراحت تتوغل فى أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية وأفغانستان. بعبارة أخرى، كانت الحرب الحالية أحد وسائل العودة بالنظام الدولى إلى صيغته الأصلية المؤسسة عند نشأة الأمم المتحدة، وإبان انتهاء الحرب العالمية الثانية.
كل ما سبق يعطى درسًا بأن الإمعان فى إذلال النظم السياسية، وتكبيلها بالقيود، يولد أحيانًا وبعد فترة نوعًا من الانفجار، فيظهر القوميين والمتطرفين والجماعات المحافظة الساعية إلى العودة للحمية والعصبية والتمسك بالأصول والمكتسبات وأمجاد الأجداد والذود عن التاريخ المشرف لديها. فى التاريخ وجدنا أمثلة عكسية عديدة ضمدت فيها الجراح بعد الحروب، بأن عمد المنتصر إلى تمجيد المهزوم، فتم استيعاب غضبة الطرف الخاسر، وفى نفس الوقت تحقق للمنتصركل ما يريد ويزيد. ربما يمكن الاستعانة هنا بمثل مهم وهو غزوة حنين، حيث تعجب صحابة الرسول من أمره وهو يعامل المهزومين، وكانت قولتهم الشهيرة، بأن الناظر لموقف النبى كان يظن إننا المهزومون وهم المنتصرون.
وهكذا يعلمنا التاريخ إن فرض شروط المنتصر، والتصرف بصلف فى مواجهة الأمم المنكسرة، دائما يواجه بعد حال بحنق وغل من قبل تلك الأمم، وهو على الأرجح ما سيجعلها تنتظر لحظة استعادة مكانتها، بعد أن يدفع من كان منتصرًا ثمن صلفه، ومعه تدفع باقى النظم السياسية أثمانا لا ناقلة لها فيها ولا جمل.