انظر إلى أعلى بحب - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 12:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انظر إلى أعلى بحب

نشر فى : الخميس 24 نوفمبر 2016 - 9:25 م | آخر تحديث : الخميس 24 نوفمبر 2016 - 9:25 م
للوهلة الأولى يبدو عنوان المقال مناقضا لعنوان المسرحية الشهيرة «انظر وراءك بغضب» للكاتب البريطانى جون أوزبورن، ففى النظر إلى الوراء رجوع للماضى أما النظر إلى أعلى ففيه شخوص للمستقبل، ومع ذلك فإن الغضب الذى أودعه أوزبورن فى نفس أليسون بطلة مسرحيته كان غضبا إيجابيا غايته التمرد على الملل فى حياتها اليومية كى تبدأ من بعد حياة جديدة تفعل فيها ما تحب، أى أن أوزبورن انقلب على الماضى وراهن على المستقبل أو هو اعتبر النظر للوراء مبررا للتطلع إلى أعلى.

***

فى الأسبوع الماضى نظر العالم كله إلى أعلى، شدته استدارة القمر الأكبر من نحو سبعين عاما فاحتفى بها، وتبارت عواصم العالم فى إبراز مفاتنها وقد تكثفت عليها أنوار القمر فتلألأت وتألقت. فى إحدى الصور بدا القمر الكبير وهو ينثر مئات من أشعته الفضية الرائعة على سطوح البحار والأنهار فتحولت المياه الساكنة إلى نافورات ملونة راقصة أين منها نافورة بيلاجيو فى لاس فيجاس، وفى صورة أخرى أطل القمر متعاظما بين الأهرامات فوضع العالم فى أجواء عرض ساحر مجانى من عروض الصوت والضوء، وفى صورة ثالثة استقرت الدائرة المنيرة فوق إحدى ناطحات السحاب الباريسية فبدت هذه الأخيرة كما لو كانت امرأة تشب على أطراف أصابعها لتعانق القمر، فى صورة رابعة وخامسة وسادسة كان الحسن تاما والرومانسية طاغية. تعبنا من النظر للأرض والبشر، آه والله تعبنا، أرهقتنا المذابح ومشاهد الدم المسفوح فى صراعات طواحين الهواء على لا شىء بالمعنى الحرفى للكلمة، وأجهدنا اللهاث وراء الرابحين والخاسرين فى الحروب الأهلية والانتخابات بأنواعها، واستنزفتنا الثورات والإحباطات وشاخ الشباب منا قبل الأوان، ووسط هذا كله أطل علينا القمر الكبير فخطف أبصارنا إلى السماء ودغدغ حواسنا المشدودة وسرب إليها خدرا لذيذا لذيذا، يا الله لكم تأخرت علينا أيها القمر الكبير.

قال لى صديق: منذ الصعود الأول إلى القمر اغتربت عنه وفقدت الشعور الممتع بأنه ملكى وحدى، كان جزء من سحر القمر ذلك الغموض الذى يلفه فجاء البشر وهتكوا سره.. حطت عليه مركباتهم ولوثته أقدامهم.. صوروه وبعثوا إلينا بصوره فإذا هو مثله كمثل الأرض عبارة عن صخور وأحجار، كنت أمنى حبيبتى بالمستحيل «عشانك يا قمر أطلع لك القمر» لكن المستحيل صار ممكنا وأتيح لكل مغامر أن يشد إليه الرحال، لم يعد القمر قمرنا أو فى القليل لم يعد القمر كما كان. شغلنى حديث الصديق لبعض الوقت وتساءلت: هل حقا فقد القمر جاذبيته وقدرته على إبهارنا؟ أمن الصحيح أنه بات والأرض سواء؟ هل توقف القمر إلى الأبد عن إلهام الشعراء والمحبين؟ يوقن كثيرون وأنا منهم أن لا، فرغم كل شىء ما زال القمر قادرا على إيناسنا وإسعادنا، ومازلنا نثق أن الأرض ليست كالقمر وإن يكن القمر الجرم السماوى الأقرب إليها تكوينا، فعندما يزلزل باطن الأرض ويرتج يفزع البشر ويخشون، أما حين يتخفى القمر وراء السحب فإن الصبايا ينقرن الدفوف ويغنين لبنات الحور كى يحررن القمر، وشتان بين الفزع والغناء. أما علاقة القمر بالإبداع فهى الأروع على الإطلاق، أكاد لا أعرف شاعرا أو أديبا أو مغنيا إلا وألهمه القمر، هل هناك أرقى من وصف الشاعر عزيز أباظة القمر فى قصيدته «همسة حائرة» بأنه ذلك «الرافد الفضى»، الذى شهد كما لم يشهد أبدا «إلفين ذابا تباريحا وأشجانا؟» أو هل هناك أجمل من تغنى أم كلثوم بليالى القمر التى «هلت» وتخشى أن تمر دون أن ترى حسن الحبيب إلى جوارها؟

***

لكن على كثرة ماقيل فى مدح القمر يظل شعر نزار قبانى هو الأغزر، منحازة له لا أخفى انحيازى، وكيف لا وهو الذى عبر عن لقاء اثنين من أصدقاء الصبا بعد أن شبا بأنهما «دورا القمر» وكأن دائرة العمر كانت فى انتظار لقائهما لتكتمل، وهو القائل إنه «حين يولد فى الشرق القمر.. يترك الناس الحوانيت ويمضون زمر «وكأن للقمر جاذبية طاغية لا يقاومها البشر فإذا هم يسيرون خلف ضيائه زرافات ووحدانا، وهو الذى يحجز «غرفة لاثنين فى بيت القمر» يقضى فيها مع حبيبته عطلة نهاية الأسبوع، وكأن فنادق الأرض كلها لا تليق بالمقام. أما هى «جارة القمر» أو فيروز فإنها لم تترك بابا للتغنى بالقمر إلا ولجته، فحين أحبت صور لها حبها أن القمر صار أكبر «باحبك ما باعرف هن قالولى.. من يومها صار القمر أكبر»، وحين تغنت ببيتها وضيعتها كان القمر فى خلفية المشهد «نحنا والقمر جيران.. بيته خلف تلالنا»، وحين كانت تتأخر عن لقيا الحبيب كانت تتعلل بالقمر «لا تعتب على أخرنى القمر»، أما حكايتها مع القمر فى ليالى السهر فقالت عنها ما قالت «يا قمر على دارتنا.. يا حكاية سهرتنا»، و«ع بالى لاقيك يا قمر..ع بالى أجيلك لحالى تا يحلا السهر»، و«حبيبى بده القمر» وهى أغنية بديعة تسهر فيها فيروز على سطح الدار عشر ليال فى انتظار القمر لتهديه إلى حبيبها، وغير ذلك كثير جدا.

***

نشكر الظروف السعيدة التى جعلت القمر الكبير يتوسط سمواتنا، نشكرها لأنها أتاحت للقمر أن يفرض وجوده ويتجلى حتى لمن حرم من رؤياه بسبب الأبنية الخرسانية التى تحيط به من كل صوب، نشكرها لأنها سمحت لنا بأن نتناقش حول علاقتنا بالقمر وهذا نقاش كنا قد هجرناه من زمن، ونشكرها بشكل خاص، لأنها منحتنا ساعات قليلة من الرومانسية وربما من الإنسانية كنا فى أمس الحاجة إليها.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات