«يحيى الرخاوى» قارئ النفوس والنصوص - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«يحيى الرخاوى» قارئ النفوس والنصوص

نشر فى : السبت 24 ديسمبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 24 ديسمبر 2022 - 8:10 م

ــ 1 ــ
منذ طه حسين والعقاد وأمين الخولى، ومن بعدهما ومحمد النويهى ومحمد خلف الله أحمد وعز الدين إسماعيل، اكتسبت القراءات النفسية للأدب شهرة واسعة فى نقدنا الأدبى الحديث والمعاصر، فقد أراد دارسو الأدب ونقاده فى القرن العشرين الإفادة من المكتسبات المنهجية لعلم النفس وبخاصة فى التحليل النفسى لإضاءة النصوص الأدبية وتفسيرها ومن منظور نفسى بالتركيز على شخصية مبدعها والكشف عن دوافعه ومكبوتاته.
ثم ومع النصف الثانى من القرن العشرين، برزت المدرسة العلمية النفسية على يد العالم الجليل والأستاذ القدير الدكتور مصطفى سويف المؤسس لتلك المدرسة النفسية فى دراسة عملية الإبداع فى الأنواع الأدبية المختلفة؛ الشعر والقصة القصيرة، والرواية والشعر المسرحى.. إلخ.
وقد برز فى هذه المدرسة أسماء لامعة بقيمة ومنجز الدكتور مصرى حنورة وشاكر عبدالحميد وخالد عبدالمحسن بدر (رحمهم الله جميعا) وأيمن عامر، وقد تركت لنا هذه المدرسة المصرية «الرائدة» إرثا من الدراسات التى كشفت لنا الكثير من أسرار ودهاليز عملية الإبداع، وأمدتنا بأدوات دقيقة ورصينة فى الكشف عن دلالات النصوص وتحليلها فيما يضيء عملية الإبداع والأدب والنقد معا.
وبين هذين الاتجاهين السابقين؛ اتجاه النقاد الذين انطلقوا من النصوص الأدبية لاكتشاف مجاهل المبدعين والمؤلفين، وسبر أغوار نفوسهم ومشكلاتهم ومكبوتاتهم، واتجاه علماء نفس الإبداع الذين انطلقوا من أدوات علم النفس إلى النصوص الأدبية، وما قبل إبداعها وأثناء إبداعها، برزت المدرسة التى رادها وتفرد فيها نظرا وتطبيقا وحضورا الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى الذى رحل عنا قبل أيام قليلة عن 89 عاما بعد أن صنع تاريخا ومجدا وإرثا إنسانيا وفنيا وعلاجيا يندر أن يتحقق ويشيع وينتشر ويحظى بما حظى به من حضور وقبول ورضا بين أوساط العامة والنخبة فى وقتنا هذا وفى أوقات سابقة ولاحقة أيضا.
ــ 2 ــ
كان اسم المرحوم يحيى الرخاوى علما فى مصر على ممارسة الطب النفسى وعلاج الإدمان والعلاج النفسى فى عمومه، واكتسبت منطقة كاملة فى واحدة من أميز أحياء القاهرة (مرتفع المقطم الشهير) اسم الرخاوى وصارت علما على مؤسسته العلاجية والنفسية التى صارت واحدة من أشهر وأهم وأبرز المؤسسات العلاجية فى مصر والعالم العربى. أما الحضور الإنسانى والممارسة الأخلاقية للطبيب النفسى الذى يحترم مرضاه ويصون أسرارهم ويعمل بكامل طاقته الإنسانية وخبراته الطبية والنفسية على مساعدتهم وعلاجهم فالأمثلة والحكايا والمتواتر عن الدكتور الرخاوى فى هذا الإطار أشبه بالأساطير التى تتناقلها الأجيال؛ كل من اتصل به أو تعامل معه يحمل رواية وحكاية من هذه الأسطورة، ولقد تناقل الكثيرون جوانب منها عقب وفاته على صفحات السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعى التى لو جمعت لشكلت مجلدا ضخما أو أكثر عن ممارسة الرخاوى الإنسانية والطبية والعلاجية عبر ما يزيد على الخمسين سنة.
وأظن أنه لولا الجانب الإبداعى والفنى الأصيل فى تكوين الدكتور الرخاوى ومزجه البديع المتجانس بين خبرات الطب النفسى وأدواته ووسائل تحليله وعلاجه؛ وبين شغفه الأصيل المتنامى بالقراءة والأدب والفن والإبداع؛ ممارسة وكتابة وتأليفا ونقدا، ما كان حقق هذه الإبداعية المتفردة فى الجانبين؛ جانب قراءة النفوس والبحث عن معضلاتها ومشكلاتها والتعاطى معها وعلاجها، وجانب قراءة النصوص (الشعرية والقصصية والروائية) وتحليلها وإضاءتها وطرح تفسيرات وتأويلات غاية فى الثراء والقيمة وبخاصة تلك التى دارت حول نصوص نجيب محفوظ وقد ترك لنا ما يقرب من الكتب الخمسة (إن لم يزد) من الدراسات والقراءات والنقدية لنصوص وأعمال نجيب محفوظ الذى أتاحت له الظروف الاقتراب منه وأن يكون الطبيب المشرف على علاجه ومتابعة التدريب على استعادة القدرة للكتابة بيده اليمنى عقب محاولة اغتياله الهمجية الوحشية فى أكتوبر 1994.
ــ 3 ــ
إذن، وفى تلك المنطقة الملتبسة المتقاطعة بين ممارسة الطب النفسى والنقد الأدبى والإبداع، برزت تجربة الدكتور الرخاوى ككل تجربة أصيلة ونادرة لا تنقل عن أحد ولا تقلد أحدا، تنشئ فروضها الخاصة وتختبرها وتعيد اختبارها، ويقدم كل فترة مراجعة ونقدا لنقده، إيمانا بتطور التجربة الإنسانية، وتراكم المعرفة وتطور الوعى وإرهاف الحواس.. إلخ.
وكان ــ رحمه الله ــ يلح ويؤكد على الإشارة دائما إلى مصدرين اثنين كان لهما تأثير خاص فيما وصل إليه من خبرة وممارسة وغزارة إنتاج، أولهما: تجربة العلاج الجمْعى للعامة من المرضى، وثانيهما: العلاج المكثـَّف لمحنة الفصام، كان يقول: «فقد أعاننى كلٌّ من هذا وذاك على إعادة الكشف والمراجعة، وأنا أواصل معايشة وعى مرضاى ذهابا وجيئة، دخولًا وخروجًا، نكوصًا وتطورًا، تفسخا وخَلقا، بآليات النقد إبداعًا، أكثر من تطبيق معلومات العلم حساباتٍ». ويقول أيضًا: «نعم: لقد رحتُ أقرأ المريض النفسى باعتباره «نصا بشريا» يحتاج إلى نقد بناء لإعادة تشكيله، بمشاركته، فى نفس الوقت الذى يُعتبر فيه المعالج نصا بشريا آخر: نصًّا مجادِلا محاورا ناقدا مبدعا معا، ومن ثَمَّ يعمل العلاج على حفز الانطلاق/ أو استعادته من خلال الخبرة المشتركة هادفًا إلى أن يتحول به إلى عكس مسار التدهور المحتمل من خلال إعادة التشكيل الناقد الخلاق».
ــ 4 ــ
وهكذا امتدت خبرة الدكتور الرخاوى ــ عليه رحمة الله ــ فى العلاج النفسى الجمعى على مدى ما يقرب من خمسة عقود تقريبا فى مجتمعنا العام، مع عينة طبيعية من البشر ــ ليست بالضرورة ممثلة ــ وهم يمرون بأزمة المرض، وهم يُعتبرون قطاعا عشوائيا من ناسنا بثقافتهم الجارية العادية.
وأما خبرته الشخصية، والعلاجية، والتدريسية فى «قراءة» ونقد مرضى الفصام باعتباره نواة وأساسا، معظم الأمراض النفسية، فقد جرت على مدار أكثر من خمسين عامًا من الممارسة.
لقد كان رحمه الله، بتعبير حسين حمودة، وهو واحد من المقربين منه والعارفين بقدره وقيمته، صاحب مشروع عظيم، للوصل بين علم النفس والإبداع، وصاحب كتابات أدبية؛ شعرية وروائية وسيرية مهمة، وصاحب دراسات نقدية وقراءات متنوعة ومتأملة... (وللحديث بقية).