في أحوال التنوع الثقافي المضطربة - سامح فوزي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في أحوال التنوع الثقافي المضطربة

نشر فى : الأربعاء 25 فبراير 2009 - 4:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 25 فبراير 2009 - 4:45 م

 في حديث حول إدارة التنوع الثقافي أنتقد السيد ياسين عدم حداثة الخرائط المعرفية التي تضم أشكال التنوع العرقي والديني واللغوي في المنطقة العربية. وذهب الدكتور جابر عصفور إلي القول بأنه لا توجد خريطة من الأصل لتضاريس التنوع الثقافي في المحيط العربي.

دار حوار حول كلا الرأيين. وكان واضحا أن مفهوم "الأقليات" هو الغالب علي النقاش، رغم أنه تحول إلي مفهوم "سيئ السمعة"، يعتري من يستخدمه حالة اعتذاريه.

بصرف النظر عن هذا السجال الذي لا محل له الآن، فإن النتيجة التي يمكن أن نخلص إليها هي أن هناك حاجة إما إلي تحديث خريطة أشكال التنوع الحالية، أو وضع خريطة للتنوع تأخذ في اعتبارها ما شهدته المنطقة العربية من تحولات في الفترة الأخيرة، والتي من أهم ملامحها تصاعد النزعات الطائفية والمذهبية علي نحو غير مسبوق، وتحولها إلي مشروعات إيديولوجية وسياسية متكاملة، بعضها عابر للحدود، تقدم الهوية وشبكات الآمان الاجتماعي، والقيادات الشعبية غير الفاسدة، والدعم المالي لأعضائها في مقابل أن يتخلي رعاياها عن الولاء للدولة، أو علي الأقل يضعون الولاء للطائفة أو للجماعة الدينية أو المذهبية في المقدمة. وهناك حالات تحولت فيها مؤسسات الدولة إلي مجرد إطار لا أكثر لضبط التفاعلات بين الكيانات الطائفية، وتوزيع الأنصبة فيما بينها.

(1)

هناك بالفعل حاجة إلي وضع خريطة لتضاريس الجماعات العرقية والدينية والمذهبية، والتي يعبر صعودها، وعلو صوتها، عن عدم اكتمال عمليات بناء الدولة القومية الحديثة، علي نحو جعلها في خدمة الجزء، واستغراب، وملاحقة، وربما تصفية بقية مكونات المجتمع. الإشكالية الحقيقية التي سوف ترتطم بها أية جهود بحثية لرصد أشكال التنوع هو تباين الوزن النسبي للتكوينات المعبرة عنه، مما يجعل وضعها جميعا في سلة واحدة مسلكا غير علمي.

من ناحية أولي، الأقليات في المنطقة العربية متباينة في نظرتها إلي الدولة القومية. هناك أقليات تريد ذاتية سياسية مستقلة، أو علي الأقل يطرح فريق من أبنائها ذلك مثل الأكراد وقبائل جنوب السودان، وهناك جماعات دينية أخري مثل المسيحيين في المنطقة العربية، وأكبرهم عددا الأقباط في مصر، أقصي ما يطمحون إليه هو المساواة والمشاركة في مشروع الدولة القومية.

ومن ناحية ثانية، الأقليات في المنطقة العربية متباينة فيما تمتلكه من مؤسسات. هناك أقليات تمتلك مؤسسات سياسية تمثيلية وتعبوية وخدمية متطورة، قوية، ومتغلغلة، تنازع الدولة في ولاء المواطنين لها، وهناك أقليات فقيرة في التكوين المؤسسي، يدور جٌل اهتمامها حول تقديم خدمات رعائية لأتباعها، وإظهار الولاء المطلق للنظام الحاكم.

ومن ناحية ثالثة، الأقليات في المنطقة العربية متباينة فيما يتوفر لها من مظاهر "القوة الخشنة"، هناك أقليات لديها قوات نظامية، وأجهزة استخبارات، وأسلحة متطورة قد تفوق ما يتوفر لدي الدولة ذاتها، وهناك أقليات تخشي أن يكون لديها بعضا من مظاهر القوة الخشنة، بل قد تسارع إلي نفي واستنكار أية أصوات تدعو إلي ذلك.

ومن ناحية رابعة، الأقليات في المنطقة العربية متباينة فيما تمتلكه من "امتدادات خارجية"، هناك أقليات لديها جماعات متحدثة باسمها في الخارج، قوية وفاعلة، نافذة لمستويات صناعة القرار في العواصم الغربية المهمة، وهناك أقليات أخري تخشي مجرد اتهامها بأنها تسعي إلي التواصل مع "مراكز التأثير" في الخارج عبر الجماعات المنتمية لها، والمعبرة عنها.

ومن ناحية خامسة، الأقليات في المنطقة العربية تشهد حالات من التباين الداخلي، يصل إلي حد الخلاف العميق، لا يصح اختزاله أو تجاوزه. المنطق "الاختزالي"، وسياسات "التنميط" التي تحكم النظرة لكل ما هو مختلف عرقيا أو دينيا أو مذهبيا تطمس حالات شديدة من التباين الاقتصادي والسياسي والثقافي بين المنتمين لذات العرق أو الدين أو المذهب، مما يجعل اللون الواحد للجماعة العرقية أو الدينية أو المذهبية غير واقعي.

(2)

المشهد معقد، بما لا يحتمل التهوين منه، ولاسيما أن التكوينات العرقية والدينية والمذهبية حين تبلغ لحظة من التبلور، والتطور، رأسيا وأفقيا، تتجه تلقائيا إلي إنتاج ما سماه –روبرت بوتنام- "الوجه المظلم من التضامن الإنساني"، ويعني خلق حالة من العزلة لدي المنتمين لها، وتحويل المختلفين إلي أعداء، ينبغي استرابتهم وإن اقتضي الأمر مواجهتهم، والشعور بالتضامن الاستبعادي المتمحور حول "العرق" أو "الدين" أو "المذهب"، بما يلغي كافة أشكال التباين في المجتمعات الحديثة التي تقوم علي العضوية الاختيارية السياسية، والنقابية، والتطوعية. ومما يزيد من تعقيد الموقف أن هويات الأفراد تصبح أكثر فأكثر "هويات جامدة"، لا تعرف قبولا للتنوع، أو تسامحا مع الاختلاف، والذي يتحول في ذاته إلي عيب نداريه، أو مرض نكافحه، أو علي أحسن تقدير حالة استثنائية نسعى إلي الإفلات منها.

(3)

نخلص مما سبق أن التنوع حقيقة إنسانية، والمشكلة تكون في "إدارته". إذا كانت إدارة رشيدة يصبح التنوع تلقائيا أحد عناصر "القوة الناعمة" التي تمتلكها الدولة، وحين تكون إدارة التنوع غير رشيدة نجد أشكالا من التفسخ الاجتماعي تترواح بين الاحتقانات الطائفية، وبين الحروب الأهلية في ساحات القتال، وفي مؤسسات السياسة. في "مؤتمر إدارة التنوع الثقافي"، الذي عقده "منتدى حوار الثقافات" في بيروت الأسبوع الماضي، أنصب حوار المثقفين العرب حول الأشكال الرشيدة، وغير الرشيدة لإدارة التنوع، وعوامل الاندماج وأسباب التفكيك. ولكن تظل الإشكالية، التي تحتاج إلي تصميم لهندسة سياسية اجتماعية عربية، هي كيف يمكن أن يتحول التنوع الثقافي إلي حالة من التعددية السياسية؟

سامح فوزي  كاتب وناشط مدني
التعليقات