يصعب قراءة المشهد الفلسطينى ككل، سيما الصراع الساخن فى غزة ما بين قوات الاحتلال وحماس، بمعزل عما يجرى داخل الضفة الغربية، وربما الاستفزازت والتى اندلعت بباحات الأقصى من قبل المستوطنين وتجاه المصلين والمترددين على الأماكن المقدسة، سجلت أبرز دوافع انطلاق طوفان الأقصى، وقبل أكثر من تسعة أشهر، حتى إن معظم التحليلات السياسية تجاه الأسباب والدوافع فى ذلك، كانت تتجه أول ما تتجه ناحية ما تتعرض له القدس الشرقية من استفزازات من قبل المستوطين، وهنا وجب تسليط الضوء على فلسفة هذا المستوطن، فبينما جرت العادة عنه كونه الدخيل أو القادم والذى قدم بغرض الاستقرار ومن أجل الحصول على تسهيلات تمنحها الدولة، إلا أن هذا المستوطن الإسرائيلى تحديدًا يتمتع بفلسفة العداء، تلك والنابعة من أيديولوجيته المتطرفة، والمتعلقة بالعداء تجاه الشعب الفلسطينى وأراضيه، حتى إن هؤلاء المستوطنين أنفسهم يشاركون قوات الاحتلال فى الممارسات الإجرامية بحق سكان الضفة، نضف على ذلك عمليات الاعتقالات الموسعة بحق السكان العاديين بخلاف المقاومين.
منذ عقود وسجلت الضفة الغربية تحديدًا مقاربة فريدة، كونها منطقة خاضعة للاحتلال، وبموجب اتفاقية أوسلو تسيطر إسرائيل على أكثر من 60% من أراضيها، وتعتمد فيها ما يشبه الحكم الكونفيدرالى، تترك للسلطة الفلسطينية الأمور المعيشية والمتعلقة بالصحة والتعليم والمحليات وغيرها، لتتمتع هى بالتصرف فى كل الجوانب السيادية والمتعلقة بالعلاقات الخارجية والعسكرية والأهم الاقتصاد وموارده، ناهينا عن التحكم فى المعابر ومداخل ومخارج التجارة والجمارك، إلا أنها تمكنت من إحداث حالة من التقارب بينها كدولة احتلال وبين السلطة الوطنية، ما جعلها تعرف طريقها ناحية الاستقرار السياسى والإدارى، خصوصًا مع تنصيب هذه السلطة رسميا برئاسة محمود عباس 2005 عقب انتخابات رئاسية شارك فيها فلسطينيى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية أيضًا، وبالرغم من ضعف السلطة والانقسامات الحادثة ما بين الفصائل الفلسطينية، فإنها رسخت حالة من الاستقرار هناك ولو بنسبة.
على العكس منها كان قطاع غزة، فمع انسحاب إسرائيل بشكل كامل عن القطاع 2005، وانفراد حكومة حماس 2007 - وعقب انتخابات تشريعية حصدت أغلبية المقاعد على إثرها - بحكم غزة، إلا أنها شهدت أكثر من خمسة حروب كارثية خاضتها مع قوات الاحتلال، كُللت بطوفان الأقصى والذى عُد أقساها وأكثرها نتائج كارثية مدمرة، حتى إن إعادة إعمار القطاع قد تتطلب عشرات السنوات، أما الخسائر البشرية فسجلت عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، وكله بخلاف المفقودين.
يبدو أن القناعات الإسرائيلية والرافضة لحل الدولتين وأية عملية سلام، ما زالت حاضرة خصوصًا التى تقتضى إسرائيل واحدة، وأن التهادن مع السلطة فى الضفة لن يطول، فما زالت المستوطنات تمتد بطول الضفة، وبالتوازى مع البؤر الاستيطانية فى تجسيد واضح لمقولة بن جوريون الشهيرة «حدود إسرائيل ستحدّدها الأجيال»، ليكمل بتسلئيل سموتريتش وزير المالية الحالى والمحسوب على أقصى اليمين المتطرف بقوله: «إذا تمسك الفلسطينيون بوطنيّتهم فعليهم أن يرحلوا» فى إشارة إلى المضى نحو إسرائيل واحدة، ومن ثم لم يكن بمستغرب إجراءاته الأخيرة حول رفع عوائد الضرائب عن الضفة الغربية، بل وصل الأمر إلى شرعنة تقييد وحجب الأموال عنهم، من خلال صياغة القوانين والتى تقتضى تحويل أموال الفلسطينيين إلى أسر الضحايا من الإسرائيليين، وكأن الاستراتيجية الإسرائيلية تتحرك فى اتجاهين وبالتوازى معًا؛ اتجاه عسكرى فى غزة يريد تطبيق سياسات الأرض المحروقة، واتجاه فى الضفة الغربية يهدف أول ما يهدف إلى تعزيز احتكاكات المستوطنين بالفلسطينيين، مع شرعنة قطع الإمدادات فى استعداد للاحتكاك بالسلطة الفلسطينية نفسها، وكله أيضًا بالتوازى مع اندلاع الهجمات المنتظمة من قبل قوات الاحتلال، ولعل خطاب سموتريتش الأخير أوضح وبشكل علنى النية الكاملة فى ضم الضفة، من خلال حديثه عن حدث سيهدف إلى منع قيام فلسطين فى قلب إسرائيل، أيضًا الاستعدادات حول تطوير المستوطنات فى هيكلة واسعة، والأقسى حديثه حول التخطيط لإنشاء نظام مدنى منفصل للضفة الغربية، ما ينذر بإجراءات إسرائيلية مرتقبة، تستدعى التعامل الجدى وتسليط الضوء على الضفة الأخرى من غزة وما يجرى فيها من صراعات مكتومة، قد تنفجر عند حد، قد يتشابه وما يجرى فى غزة.
ربما من مفارقات القدر أن تخدم المعطيات على أوضاع قضيتنا المعقدة، خصوصًا اللقاء الأخير، والذى جمع روسيا وكوريا الشمالية، وعلى مستوى العسكرى والأمنى، وفى إطار الحراك الجيوسياسى المستمر أقصى الشرق، وعقب تعاون واضح برز أيضًا مؤخرًا ما بين الصين واليابان، وكلها معطيات كفيلة أن تردع الكبار من الغرب، ولو فى محاولة لمراجعة سياساتهم بالشرق وتداعياتها على العلاقات مع المنطقة.