عالم التكتلات الجديدة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 6 ديسمبر 2024 6:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عالم التكتلات الجديدة

نشر فى : الجمعة 25 أغسطس 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الجمعة 25 أغسطس 2023 - 8:00 م
منذ بدايات العقد الثانى فى الألفية الجديدة، وأوضاع العلاقات الدولية فى تغير مطرد.
كانت الحرب الباردة قد انتهت فى تسعينيات القرن العشرين بانتصار المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة وانهيار الاتحاد السوفييتى السابق بعد أن تفككت الكتلة الشرقية وزال حلف وارسو.
كانت التسعينيات هى عقد الهيمنة الأمريكية الانفرادية على العالم، عقد التدخلات العسكرية من قبل واشنطن وحلفائها الأوروبيين فى عديد الصراعات الإقليمية (حرب تحرير الكويت وحروب يوغسلافيا السابقة كمثالين)، عقد الاستتباع الروسى للإرادة الغربية الذى جسده الرئيس الأسبق بوريس يلتسين بخضوعه التام للأمريكيين والأوروبيين وكمون الصين التى فضلت مواصلة جهودها التنموية فى الداخل والابتعاد التام عن التورط فى الصراعات الدولية المستعرة.
غير أن العقد الثانى من الألفية الجديدة حمل تحولات عديدة ومتتالية. من جهة أولى، عادت روسيا تدريجيا إلى ساحات الفعل الدولى وتوجهت إلى مناوئة الولايات المتحدة فى وسط وشرق أوروبا ومناطق مختلفة فى الشرق الأوسط (عبر الحليف الإيرانى والحليف السورى) وإفريقيا (شمالا وجنوبا) وفى آسيا والمحيط الهادى من خلال التنسيق مع الصين.
من جهة ثانية، شهدت الفترة الممتدة من ٢٠١٠ إلى ٢٠٢٠ صعودا اقتصاديا وماليا محموما للصين التى تحولت إلى صاحبة ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، ووسعت من شبكات علاقاتها الاقتصادية والتجارية والمالية ومن إقراضها التنموى لدول الجنوب ومن استثماراتها فى كل مكان، وشرعت فى إظهار قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية فى الأقاليم الحيوية لأمنها بمضامينه المتكاملة من منطقة المحيط الهندى ــ الهادى إلى غرب إفريقيا مرورا بالشرق الأوسط.
من جهة ثالثة، حدثت فى ذات الفترة سلسلة من الانتفاضات الشعبية فى بعض بلدان وسط أوروبا والبلقان وفى الشرق الأوسط وفى بعض البلدان الآسيوية والإفريقية ونتج عنها إما تغيير فى نظم الحكم أو انهيار مؤسسات الدولة الوطنية وانفجار الصراعات الأهلية أو أزمات أمن إنسانى متراكمة وطويلة المدى. وإزاء كل ذلك، خاصة حين انفجرت الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط بما تحويه من موارد نفط وغاز هائلة ومصالح استراتيجية واقتصادية وتجارية للقوى الكبرى وليس فقط للولايات المتحدة، تحرك كبار العالم لحماية مصالحهم.
لم تترك روسيا ولا الصين المجال للمعسكر الغربى المقاد أمريكيا للفعل بمفرده. حضرت روسيا بقوة فيما خص أزمات وصراعات إيران وسوريا وليبيا وبعض البلدان الإفريقية، وحضرت الصين اقتصاديا وتجاريا وتنمويا أولا ثم دبلوماسيا وأمنيا ثانيا فى منطقة المحيط الهندى ــ الهادى ثم فى شرق وغرب إفريقيا وفى الشرق الأوسط. ولم يترك الجانب الأوروبى المجال للولايات المتحدة الأمريكية بمفردها لتفرض إرادتها باسم الغرب فى الشرق الأوسط وفى القارة الإفريقية، بل زاحمها إلى حد ما. وكذلك طورت الدول الأوروبية علاقات تعاون مركبة مع روسيا (استيراد الطاقة مثالا) لم تتدهور إلا بعد اشتعال الحرب الروسية ــ الأوكرانية فى ٢٠٢٢، ومع الصين اقتصاديا وتجاريا (الاستثمارات الصناعية والتكنولوجية الأوروبية الهائلة نموذجا)، بينما ابتعدت تماما عن منافسة واشنطن فى منطقة المحيط الهندى ــ الهادى وفى أمريكا الوسطى والجنوبية.
• • •
تغيرت إذا التفاعلات العالمية ودخلت على خطوط الصراعات الإقليمية المختلفة وفى سياقات البحث عن المصالح الاستراتيجية عديد القوى الدولية التى غابت لفترات كروسيا أو خرجت من كمونها كالصين أو سعت على استحياء إلى شىء من الاستقلالية كالدول الأوروبية. فى المقابل، كانت الولايات المتحدة قد استنزفت أدواتها العسكرية والأمنية والكثير من رأسمالها الدبلوماسى والأيديولوجى فى حروبها الكثيرة منذ نهاية الحرب الباردة فى التسعينيات، وارتفعت أصوات نخبها السياسية والبحثية تطالب بتقليل الانكشاف الأمريكى عالميا وتحجيم الدور فى أوروبا حيث يستطيع الحلفاء الحفاظ على مصالحهم ومصالح واشنطن إن قرروا الاستثمار الجاد فى موازنات الدفاع والأمن وكذلك الانسحاب من الشرق الأوسط حيث الأزمات والصراعات والحروب الأهلية التى لا تنتهى.
وفيما خص الشرق الأوسط، دفعت النخب السياسية والبحثية الأمريكية بحقيقة تراجع أهمية مصالح القوة العظمى هناك مع تحقيقها للاكتفاء الذاتى من الطاقة. أما بعيدا عن منطقتنا، فتحركت الولايات المتحدة آسيويا لمواجهة الصعود الصينى المهدد لمصالحها ومصالح حلفائها فى منطقة المحيط الهندى ــ الهادى وإفريقيا للانفتاح على دول الجنوب العالمى الأفقر حيث التبعية للإقراض التنموى الصينى وحيث العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية مع العملاق الآسيوى فى تطور مستمر.
ومع جائحة كوفيدــ١٩ وتداعياتها الصعبة على الاقتصاد العالمى وما نتج عنها من تكالب كبار العالم على تعويض خسائرهم الاقتصادية والتجارية والمالية بأنماط جديدة من استغلال دول الجنوب وبصنوف جديدة من التحالفات الدولية تارة لأغراض التنمية والاستثمار وتارة لأغراض الإقراض، صار واضحا أن الولايات المتحدة لم تعد القوة الكبرى الوحيدة المتحكمة عالميا فى الاقتصاد والتجارة. فقد أضحت الصين منافسا شرسا، وتنامت العلاقات التجارية وصادرات السلاح الروسية، واتسعت مجالات التعاون التنموى بين الهند وعديد الدول فى آسيا وإفريقيا، وباتت لدول الجنوب القدرة على الذهاب إلى الحكومات الصينية والروسية والهندية وطلب قروضها التنموية ومساعداتها فى مجال البنى التحتية والتكنولوجية والصناعية عوضا عن القروض والمساعدات الأمريكية والأوروبية.
ولم يسبب اشتعال الحرب الروسية ــ الأوكرانية فى ٢٠٢٢ سوى توضيح تراتبية القوى الكبرى إن فى الغرب أو بعيدا عنه. فاتضح احتياج أوروبا وعلى الرغم من قدراتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية للتحالف مع الولايات المتحدة عسكريا وأمنيا وكذلك للحد من تبعيتها للطاقة المستوردة من روسيا. وظهر أيضا أن روسيا، وعلى الرغم من قدراتها العسكرية، تحتاج لدعم الصين. وباتت جلية رغبة الهند فى قيادة الجنوب العالمى ومواصلة الاقتراب من المحور الصينى ــ الروسى مع الاحتفاظ بعلاقات تعاون جيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وحين سعت الولايات المتحدة إلى دفع الهند للمشاركة فى احتواء النفوذ الصينى المتزايد فى القارة الآسيوية وفى المحيطين الهادى والهندى وقدمت الكثير من عروض التعاون السخية (مذكرات التفاهم الموقعة بين الجانبين فى واشنطن خلال الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء الهند)، تحفظ الطرف الهندى على التورط فى مواجهة مع عملاق آسيوى يجاوره ويتفوق عليه فى القوة والقدرات وله معه مصالح مشتركة ورفض التورط فى تحالفات عالمية وإقليمية غرضها الوحيد حصار الصين.
• • •
العالم اليوم، فى ٢٠٢٣، يعيش على وقع منافسة ثنائية بين الولايات المتحدة، القوة العظمى المتراجعة، وبين الصين، العملاق الآسيوى الصاعد. وعلى وقع هذه المنافسة الثنائية أيضا، تتحدد ملامح التفاعلات الدولية الجديدة ومواقف القوى الكبرى الأخرى من روسيا والهند إلى أوروبا. وعلى وقعها، أخيرا، تتشكل استراتيجيات وسياسات دول الجنوب العالمى التى صارت قادرة على الاختيار بين المعروض أمريكيا وغربيا وبين المعروض صينيا وروسيا وهنديا.
وليس فى قيادة الصين وروسيا والهند لتوسيع عضوية مجموعة «البريكس» بضم مصر وإثيوبيا إفريقيا والسعودية وإيران والإمارات آسيويا والأرجنتين من أمريكا اللاتينية سوى المثال الراهن الأكثر وضوحا على عالم التفاعلات والتكتلات الجديدة الذى صار يحيط بنا وشرع يغير تدريجيا من واقع الهيمنة الأمريكية ومركزية الغرب.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات