إذا سقطت الأعمدة فالبرىء ماذا يفعل؟ - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 6:15 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا سقطت الأعمدة فالبرىء ماذا يفعل؟

نشر فى : الأحد 25 أكتوبر 2009 - 11:25 ص | آخر تحديث : الأحد 25 أكتوبر 2009 - 11:26 ص

 سقط عمودان من أعمدة الثقافة الحقيقية والفاعلة خلال أقل من شهرين، محمود عوض ومحمد السيد سعيد.. والسؤال الذى يأتى إلى الذهن، هل هذا من سوء حظ مصر؟! فهذه النوعية من المثقفين نادرة جدا هذه الأيام. والمثقفون المطروحون على الساحة إما مثقفو السلطة، الذين يبررون جميع القرارات بلا استثناء، أو مثقفو التوجهات الدينية المتطرفة، والذين يحاولون فرض نوعية معينة من الثقافة. يبررون أن الماضى أفضل من الحاضر والمستقبل، وأن على مصر العودة إلى السلف الصالح وكلما تقدم الزمان بمصر أو العالم زاد الجهل والانحراف..إلخ؛ أما النوعية الثالثة من المثقفين فهم الذين يحاولون القيام بعمل مصالحة بين الدين والعلم والثقافة، وهى محاولات فاشلة.

المثقفون الحقيقيون هم الذين يعملون على تثقيف الناس وإصلاح المجتمع بقلب ناصع البياض وبشفافية لا تجذبهم مناصب ولا تزغلل أعينهم امتيازات. إنهم مثقلون بحب الوطن ويعملون بكل جهد واجتهاد على تقدمه فى جميع المجالات. ولأنهم ندرة لذلك تجدهم دائما مضطهدين من الأكثرية. ولقد كان من أبرز هذه النوعية محمود عوض ومحمد السيد السعيد، ولقد تربينا على مقالات وتوجهات محمود عوض فى السبعينيات. كنت فى ذلك الوقت أعيش بصعيد مصر، وكنا ننتظر مقالاته فى الصفحة الأخيرة من أخبار اليوم ونجد أنفسنا فيها، بل نتثقف شكلا ومضمونا. عادة كان مضمون مقالاته عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت صياغات مقالاته أكثر من رائعة تنساب فيها الكلمات والأفكار فى سلاسة ومنطق، إلا أننا توجعنا بانقطاع هذه المقالات وسمعنا أن رئيس التحرير الأصغر منه سنا وثقافة والذى فرض على أخبار اليوم لظروف معينة منعته من الكتابة. ولم يكن لى حظ لقاء محمود عوض ولكنى كنت أتتبع أخباره إلى أن قرأت نبأ نعيه فى الصحف منذ ما يقرب من خمسين يوما. وقد حزنت حزنا شديدا وتمنيت لو كنت استطعت أن ألتقى به وأجلس إليه، لكن الذين كتبوا عنه من أصدقائه ومعارفه جعلنى أندم على عدم لقائه، وأكدوا لى أن الصورة التى كانت فى ذهنى عنه من مقالاته هى صورة صحيحة وواقعية وليست مبالغة من الخيال.

فى بداية الثمانينيات انتقلت إلى القاهرة، وكان من حسن حظى أن أتعرف على مركز الدراسات السياسية الاستراتيجية بالأهرام من خلال مشروع (الحالة الدينية فى مصر) الذى كان يشرف عليه نبيل عبدالفتاح. كانت لنا جلسات عدة فى مبنى الأهرام وهناك تعرفت على محمد السيد السعيد. ومن أول جلسة لاحظت أن هذا الرجل مختلف، كان هادئ النبرة فى حديثه وليس كباقى المثقفين المنفعلين، لكن تحت هذا الهدوء كان يحمل عمقا شديدا فى الفكر وثورية لا تخطئها العين فى التوجه. توطدت بيننا صداقة حميمة، حيث التقينا فى ندوات حول حقوق الإنسان ثم فى مشروع الإشراف على الانتخابات فى التسعينيات، وأستطيع القول إن هذا الرجل كان من النوعيات النادرة والمختلفة من المثقفين وذلك لعدة أسباب:

كان يحمل قلب طفل وعقل فيلسوف.

عندما كنا نجلس معا ويتحدث إلينا محمد مدليا برأيه فى قضية ما، كان حديثه حديث الفلاسفة. فهو يتحدث عن أصول المسألة، ثم تطورها عبر الزمن، ثم تداعياتها والموقف الذى يمكن اتخاذه اليوم من تلك القضية. وبمجرد أن ينتهى ويحاول أحدهم السخرية من أى جملة قالها، يضحك معه على نفسه كطفل صغير. كانت الأشياء الصغيرة تسعده جدا. إن قدمت له وردة أو فكرة لم تخطر على باله فى موضوع ما يفتح عينيه سعيدا ببراءة الأطفال، ولا يمكن أن تحس أن هذا الطفل الذى أمامك هو الذى شرح فأطنب، وفسر فأبدع.

كان متصالحا مع نفسه والآخر.

لم أشعر معه فى يوم من الأيام أنه يعانى من أى عقدة نفسية أو اجتماعية، كان مظهره بسيطا جدا لا يهتم بالمظهر ولكن جل اهتمامه بالجوهر. لم يدع يوما أنه أفضل من فلان أو علان، وإذا جاملته بكلمة كان وجهه يحمر خجلا حقيقيا وليس مصطنعا. عندما دخلت إلى مكتبه لأول مرة لاحظت أنه يضع صورة للعذراء وآيات من الكتاب المقدس تدعو إلى الحكمة والعلم، ومخافة الله لم نتحاور يوما حول أمور دينية. لقد كان صافى النفس متصالحا مع العالم كله وليس لديه أى تحفظ على دين أو طائفة أو مذهب، وقد كان يقبل الجميع وبصدق شديد.

كان أكاديمى التفكير شعبى التعبير

من أكثر ملامح محمد السيد سعيد تفردا، أنه استطاع وضع أصعب الأفكار الأكاديمية فى لغة شعبية بسيطة. فهو يفكر بطريقة علمية خالصة، لكنه يضع ما يفكر فيه بأسلوب يستطيع الإنسان العادى أن يفهمه ويستوعبه دون جهد، لذلك كانت له شعبية من الكثير من الناس العاديين، وهو ما يفتقده معظم الأكاديميين. ولقد كانت كلماته تثير الحماسة والغيرة على الوطن بحيث كان كل من يسمعه فى ندوة أو محاضرة يمتلئ بشجاعة المواجهة، ولم يتردد يوما فى أن يتحدث لأبسط الناس عن أفكاره الصعبة.

كان فارسا صعب المراس وسهل البكاء.

كان على استعداد دائم للدفاع عما هو مقتنع به حتى الموت. لم يكن يتراجع أبدا أمام طغيان حاكم أو سطوة سلطة. لم ينحن فى يوم من الأيام لغير الله. حكى لنا يوما أنه قبض عليه بتهمة تشجيع إضراب العمال، وكيف أنه أهين وعذب فى السجن لكنه لم يذرف دمعة واحدة، وحكى لنا يوم قدم تصوره مكتوبا عن الإصلاح للرئيس أثناء لقاء الرئيس بالمثقفين ولم يعره اهتماما، إلا أن رجال الرئيس المحيطين به أخذوا الأوراق منه رفعا للحرج. لكنه كان يبكى لو جاءه إنسان يشكو حاله وقلة حيلته أو مرضه، وهكذا كانت دمعته مع هؤلاء قريبة جدا ومع مضطهديه وجلاديه بعيدة جدا.

كان بركانا متفجرا تحت سطح هادئ.

لقد كان سعيد يحمل بركانا فى داخله بركان الوطنية وحقوق الإنسان. وكان هذا البركان يغلى بقوة وحممه تحرقه من الداخل، لكن لم يسمح أبدا بهذا البركان أن ينفجر فى وجه أحد حتى أقرب الناس إليه. لم يعبر عن نفسه فى يوم من الأيام بصورة عنيفة تحطم وتحرق من أمامه بادعاء الثورة. كان يتحكم فى أعصابه ويعبر عما يجول فى خاطره بشكل هادئ وهو مبتسم، لذلك كان دائما يكسب الجولة لم يسئ فى حياته التعبير ضد شخص أو جماعة.

عندما علمت أنه صار رئيسا لتحرير البديل اتصلت به لتهنئته، ثم التقينا بعدها بقليل فى إحدى المناسبات، فطلب منى أن أكتب فى الجريدة وحدثته يومها عن تجربتى فى الإدارة عندما عملت كمدير لإحدى المؤسسات، وقلت له رغم نجاحى فى إدارة المؤسسة إلا أننى أحسست أن هذه الإدارة قد أخذتنى من متعة الخيال والفكر إلى التعامل مع موظفين وحمل هم الميزانيات والأزمات وضغوط رجال المؤسسة فى السياسة التى أريد اتباعها. ابتسم فى هدوء قائلا بالعكس، بالنسبة لى فسوف أكتب ما أريد قوله بالطريقة التى أريدها وبالحجم الذى أريده.

وهكذا فقدت مصر عمودين أساسيين فى وقت عزت فيه الأعمدة القادرة على حمل السقف من الانهيار. فى قصيدة شعر للملك والنبى داوود من كتاب المزامير (الزابور) يقول: «إذا سقطت الأعمدة فالبرىء ماذا يفعل؟».. والمقصود بالبرىء هنا أو الأبرياء هم عامة الشعب الذين يعيشون تحت سقف الوطن ولا يدركون السياسة أو الاقتصاد.. ويعتمدون فى حياتهم ومستقبلهم على تلك الأعمدة التى تحمل السقف وتظلل عليهم. والتعبير (الأعمدة) كناية عن القيادات الواعية والمتميزة والأمينة التى تعلم هؤلاء الأبرياء الصحيح من الخطأ والأخلاقى من غير الأخلاقى، ترى ماذا يفعل البرىء بعد سقوط العمودين؟! سؤال دون إجابة، يواجهنا اليوم ــ عزيزى القارئ ــ بعد فقداننا لمحمود عوض ومحمد السيد سعيد.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات