من حديث زوجة شهيد - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من حديث زوجة شهيد

نشر فى : الأحد 25 ديسمبر 2011 - 9:40 ص | آخر تحديث : الأحد 25 ديسمبر 2011 - 9:40 ص

كانت جنازته تعبيرا رائعا عن شخصيته. صحيح أننى لم أكن أتصور أن الجنازة سوف تضم كل هذا العدد من البشر، ولا كل هذه الشخصيات الشهيرة ــ على الرغم من أن زوجى لم يحترم أبدا الشهرة وكان يبتعد عنها وكأنها فحش، حتى أنه من كثرة بغضه فى الشهرة كان معروف عنه أنه «التقى النقى الخفى» ــ إلا أن الجنازة كانت تشبهه فى تنوع المعزين. كان هناك من يرتدى الجلابية، والجبة والقفطان، والسترة، والسويت شيرت، والجينز المثقوب من كل جانب. كان هناك المسلم والمسيحى والملحد، من يقص شعره كالجنود ومن ترك شعره وربطه بخيط أسفل رقبته. كانت مصر ذاتها تسير فى الجنازة. كنت جالسة أتقبل العزاء عندما قال لى أحد تلاميذه فى الأزهر الشريف إن المكان محمل بعبق عشق زوجى لكل الناس، المعزون يشبهونه فى حماسته. الجنازات ليست آخر مشاوير الانسان على الأرض وإنما هى تتويج لعمله فى حياته قبل أن ينتقل للدار الآخرة.

 

●●●

 

اعتدنا نحن النساء أن نقول: جاءنى خبر وفاة زوجى كالصاعقة على رأسى، فوقعت على الأرض وبدأت أولول. ولكن عندما جاءنى خبر استشهاد زوجى، مرت فى ذهنى عشرات الأفكار، وعصرت روحى انفعالات مختلفة: (لقد نال زوجى الشهادة التى طالما تمناها. لكن الفراق مر. أنا لن آراه مرة ثانية ما حييت. الموت ضربة قاصمة لى ولأطفالى. شهادته من أجل مصر أعلى مراحل الوطنية). لكننى اليوم وبعد مرور أيام على رحيله أشعر أننى سعيدة أنه يسكن الجنة، وأنه فاز بجائزة كبرى، نعم أنا حزينة ولكننى أصبحت أكثر تصميما أن أعمل من أجل مصر حتى لا تذهب تضحيته بنفسه هباء.

 

ولد ابننا فى 5 يناير الماضى ولم يحضر زوجى الاحتفال بمولده الذى أقمناه يوم 28 يناير لأنه كان فى ميادين مصر يهتف من أجل الحرية. لم نستطع إلغاء الاحتفال فقد كنا دعونا المدعوين، أما هو فلم يستطع الغياب عن موعده مع الوطن. غادر المنزل فى الصباح ولم يعد إلا فى الثانية صباحا مكدودا من كثرة ما تلقى من ضربات فى كل أنحاء جسده. هذا بالطبع لم يمنعه من النزول إلى الشارع فى اليوم التالى. كنت على مدار العام أقول لنفسى سوف نحتفل بعيد ميلاد ابننا الأول دون نظام مبارك. هذا النظام الذى جعلنا نعيش كالموتى، ونسير ونأكل ونعمل كبهائم الحقل بلا حلم أو مشروع. هذا النظام الذى جعلنا نعيش مع القهر والظلم والألم باعتبارهم أعز أخوتنا. لم أتصور أبدا أن 25 يناير 2012 سوف يهل دون وجوده فى ميدان التحرير للاحتفال بمرور عام على بدء الثورة المصرية، وللتأكيد أن ثورتنا مستمرة إلى أن تأتى بنتائجها المأمولة.

 

●●●

 

ذهب زوجى إلى اعتصام مجلس الوزراء. هذا الاعتصام الرمزى لقرابة المائة شخص أمام أحد أبواب مجلس الوزراء للاعتراض على تعيين رئيس وزراء من رجال مبارك، وللاعتراض على سوء إدارة المرحلة الانتقالية. ذهب بعد أن تحول المكان إلى جهنم بسبب عنف القوات المسلحة ضد المعتصمين. لم يستطع أن يرى كل هذا العنف يتفجر ويظل هو جالسا فى المنزل. كيف يقبل على نفسه أن يكون رجلا سلبيا. كان دائما يقول إن الإيجابية فى الحياة تنمى من إنسانية الإنسان. وها هو يدفع ثمن إنسانيته رصاصة فى صدره. لم تكن رصاصة طائشة ولم تأت من بعيد كعادة الرصاصات القاتلة، وإنما تم إطلاقها من قريب، حتى أنها اخترقت صدره ونفذت من الناحية الأخرى من جسده فى خط مستقيم. قتلوه لأنه كان فى الحق لا يساوم. لأنه أفتى أنه حرام أن يتم انتخاب من أفسد فى الأرض من رجال مبارك السابقين. كيف يمكن ألا ينزل إلى الشارع ونحن جميعا نواجه عبثا ليس بعده عبث؟ متظاهرون ومعتصمون يقفون فى الشارع ويتم مهاجمتهم من على الأسطح بالحجارة وبالموبيليا ثم بعد ذلك بالرصاص، ونرى كل ذلك بأم أعيننا ويراه الناس أجمعين عبر وسائل الاتصال المرئية، ثم يقولون لنا أن الأمن لم يضرب أحدا، وأن قتلانا أشباحا، والذين تم الإلقاء بهم فى المستشفيات ليسوا حقيقة، وأن المتظاهرين ليسوا ثوارا، وأن من نراهم يرتدون الملابس العسكرية ويفتكون بالناس بوحشية ليسوا قوات مسلحة، وأن النساء التى تم تعريتهن أثناء سحلهن ليسوا نساء محترمات. وأن الحرائق التى تم إشعالها فى المبانى هى من فعل الثوار. وكأن الحركة الثورية المصرية لم تدافع منذ أول لحظة وبكل بسالة عن أمن مصر وثقافة مصر. كيف بالله بعد أن آمنا بالثورة وبالغد، بعد أن تم كسر حاجز الخوف إلى الأبد، أن نمنع أنفسنا من النزول. إن الثوار يتم اتهامهم جهارا نهارا بأنهم بلطجية، وبأن كل ثائرة مومس. والحقيقة أن «سلاح البلطجة» هو سلاح داخل الجهاز الأمنى المصرى يعمل معهم منذ فترة طويلة. فهؤلاء اللصوص ومحترفو الإجرام كانوا دائما رجالا يعملون لصالح وزارة الداخلية، يؤدون لهم مهاما جليلة أثناء الانتخابات وفى حالات أخرى كثيرة، هذا السلاح يعمل الآن بكفاءة لتخريب مصر بأوامر من الأمن ومن الجيش، أو بأوامر من رجال مبارك من داخل السجن، والهدف إلصاق هذه التهم بالثوار للقبض عليهم.

 

كيف أسمح لنفسى بالحزن وأنا أسأله: لماذا يا زوجى الحبيب وانت تعرف أنك أب لأطفال صغار أصررت أن تتظاهر؟

 

هل سوف يحزن هو لو رآنى أبكى خلسة؟

 

●●●

 

سألوه فى الأيام الأخيرة عن الانتخابات التشريعة وعن الاشتراك فيها. قال إنها مسرحية هزلية ونحن مضطرون أن نمثل فيها أدوارنا. نعم الانتخابات لعبة قذرة، هى أداة من أدوات النظام المشكل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزارة الداخلية وبعض القوى السياسية التقليدية لوأد الثورة والإجهاز عليها. نحن نعيش اليوم فى نفس النظام الذى كان سائدا قبل رحيل مبارك. من استخدام سلاح البلطجية وسلاح الانتخابات ولكن على أسوأ. اليوم بعد أن زال حاجز الخوف وخرج أخيرا صوت من كان ليس له صوت، أصبحت الألاعيب القذرة تتم فى وضح النهار وليمت غيظا من يعترض. خلعوا برقع الحياء. فكل أسبوع منذ سقوط مبارك هناك الجديد لضرب الثورة. فمن استفتاء، إلى حرق كنيسة، إلى وزارة جديدة، إلى قمع دموى، إلى مشروع سياسى جديد، إلى انتخابات تشريعية. أزرع خلافات وصراعات واسقيها بماء الوقاحة وسوف تحصد فى النهاية اللا تغيير فى النظام المصرى.

 

كان زوجى الشهيد ينتمى للوسطية فى الدين والعلم والأخلاق. الدين بالنسبة إليه معاملة، وليس مظاهر. ينزل إلى ميدان التحرير ويبدأ فى تنظيف الميدان ورفع القمامة. هذا هو الدين الحنيف بالنسبة إليه حتى أنه عندما ذهب ليعطى صوته فى الانتخابات لم يعطه للاخوان المسلمين أو للسلفيين على الرغم من أنه شيخ أزهرى وإنما أعطى صوته لمن تصور أنه يمثل الثورة المصرية. 

 

مصر قدر قديم امتلأ قعره بقاذورات ثلاثين عاما، وعلينا اليوم أن ننظف هذا القدر ونجعله أنظف من القيشانى بعد خروجه جديدا من الفرن. ومن يستطيع تنظيف هذا القدر بكفاءة أكثر من المرأة المصرية؟

 

يقال دائما إن نجاح الثورة فى انتصارها لحقوق وأحوال المرأة. ولكننى اليوم أقول إن نجاح الثورة المصرية سوف يتحقق على أيدى النساء. علينا أن نكون فى مقدمة الممسكين بشعلة الثورة. فالمرأة المصرية عليها اليوم أن تمسك أولا بالحزام. بمعنى أن تقتصد، وتتعاون مع غيرها فى حل مشكلات الغذاء والماء والغاز. أتذكر أن زوجى رأى مبلغا صغيرا يقع من محفظتى فقال لى خذى حذرك فنحن اليوم ــ وهو هنا يقصد مصر لأنه كان يتحدث هكذا دائما ــ يجب أن نقلل المصروفات بأكبر قدر ممكن. هم يهددوننا بأن الإيرادات قد انخفضت وسوف نرد عليهم بأننا سوف نخفض مصروفاتنا بنفس القدر.

 

●●●

 

عدت من الجنازة ودخلت إلى حجرتنا، وأطفأت النور، ووضعت ابننا على صدرى. ضحك من وقع نبضات قلبى على جسده. ضحكته أنارت لى الدنيا. ابتسمت لابنى وأنا أمر على أجمل ساعات العمر. حاولت أن أمسك دموعى خوفا من زعل زوجى ولكننى لم أستطع. بكيت بلا صوت حتى لا يسرى الحزن عبر صدرى إلى ابننا. يجب أن يكون سعيدا ويبقى فخورا بأبيه. رفعت ابنى إلى أعلى وقلت له بصوت خافت: يا حبيبى، لن أسمح أن تفشل ثورتنا، ولن أسمح أن تختزل الثورة فيما يريد العسكر لنا ويريد الأمريكان والأوروبيون لنا، ويريد رجال مبارك لنا. لن أسمح أن تختزل الثورة فى نتائج انتخابات يعرف الجميع مقصدها، لن أسمح أن تكبر فى ظل نفس نظام القهر والاستبداد والظلم والخوف والغباء والقبح. سوف نمسح يا حبيبى قعر القدر جيدا، وسوف تعيش فى مصر محررة الإرادة، وشعبها يمتلك مصيره، ويمتلك حرية العقيدة والفكر والرأى. لست أعطيك هذا الوعد باعتبارى أما، ولا باعتبارى زوجة شهيد، وإنما باعتبارى إمرأة مصرية تمتلك قرارها.   

خالد الخميسي  كاتب مصري