في يوم ٢٥ يناير٢٠١١ ذهبت لميدان التحرير للمشاركة فيما ظننت أنها ستكون مظاهرة أخرى من تلك المظاهرات التي كنت اعتاد الذهاب إليها على مدار السنوات العشر السابقة. تلك المظاهرات كانت تنتهي عادة بمحاصرة أعداد مهولة من الشرطة لنا وبعودتنا إلى منازلنا بخفي حنين وبإحساس عميق بالقهر والسخط.
ولكن ما أن دخلت الميدان من شارع طلعت حرب حتى أيقنت أننا هذه المرة أمام وضع جديد. فالحشد كان هائلا والأعداد كانت غفيرة. كما أن الهتاف كان جديدا. ظننت لوهلة أنني استمع للهتاف القديم المألوف الذى لم استسغه أبدا، "بالروح". (وقفة). "بالدم". (وقفة). "نفديك يا شهيد " (وقفة). فالإيقاع واحد. لكن سرعان ما أن أدركت أن الكلمات جديدة :"الشعب". (وقفة). "يريد". (وقفة). "أسقاط النظام". (وقفة). لم أتمالك نفسي وسرت قشعريرة في كل أنحاء جسمي ووجدتني أشارك الآلاف في ترديد هذه الكلمات البليغة.
وعلى مدار الثمانية عشر يوما التالية ذهبت للتحرير بانتظام ولم أفوّت سوى يومين أو ثلاثة، وكنت أعود للمنزل كل ليلة للمبيت ولاستحضار طعام ومؤن لأصدقائي الذين قرروا الإقامة في الميدان حتى خلع مبارك، وهو أمر اعتقدنا، عن حق، أنه آت لا محالة. فالنظام يترنح ولحظة سقوطه أصبحت وشيكة. واستطعنا أن نعبر عن أنفسنا وأن ننتزع حق الاجتماع والتلاقي والنقاش. نحن الآن نرسم مستقبل وطننا، والمستقبل لنا. وسرعان ما أن انتشر هتاف جديد وسرى في الميدان كالنار في الهشيم: "ارفع راسك فوق. انت مصري".
بعد أربع سنوات اختفى تماما هذا الشعور بالثقة وتبخر هذا الإحساس بالتفاؤل. فعوضا عن البلد المنفتح الديمقراطي الذي ظننا للحظات أننا أقمناه أخيرا في مصرنا، إذ بنا نصحو على واقع مؤلم قاتم، فمصرنا اليوم ترزخ تحت وطأة حكم عسكري دموي، حكم يقبض على أصدقائنا، ويسجن رفقائنا، ويقضي على أحلامنا. محاكمات هزلية تصدر أحكاما بالإعدام للمئات في دقائق وجيزة، ومئات من المواطنين المصريين يقتلون في وضح النهار بغرض فض اعتصام غير قانوني اشتركوا فيه، وطلاب يفصلون من الجامعات الحكومية ويمنعون من الالتحاق بجامعات خاصة، وإعلام مزيف يطيح بالنزر البسيط المتبقي من مصداقية ونزاهة قد يكون تمتع بها يوما.
كيف انتقلنا من ميدان التحرير بأحلامه الوردية والذي عبر فيه عشرات الآلاف من المصريين عن أفكار ومبادئ سامية إلي ميدان رابعة الذي شهد مقتل أكثر من ٨٠٠ مواطن في ساعات قليلة؟ كيف بدأنا بكل هذه الآمال عام ٢٠١١ وانتهينا بمجزرة بشعة عام ٢٠١٣؟ كيف تحول الربيع العربي إلى كابوس عربي لا نستطيع أن نفيق منه؟
***
أنا مؤرخ، صنعتي قراءة التاريخ، لذا سأحاول الإجابة على هذا الأسئلة بقراءة الماضي، ليس فقط الأربع سنوات الماضية، ولكن بالتمعن في الجذور العميقة للثورات التي تشهدها بلادنا.
وقد يكون من المناسب أن أبدأ ملاحظاتي باسترجاع تجربة فريدة خضتها بعد خلع مبارك بأيام قليلة. ففي إحدى زياراتي لدار الوثائق في هذه الأيام المبكرة للثورة إذ كُلفت رسميا برئاسة لجنة لتوثيق أحداث الثورة. وبعد فترة تردد قصيرة، قبلت المهمة الشاقة وشكلت فريقا من المؤرخين والأرشيفيين وأخصائيي معلوماتية، وكنا كلنا متطوعين وأقبلنا على المهمة العسيرة بتفاؤل وحماس.
وسرعان ما أن وجدنا أنفسنا نطرح أسئلة عويصة لم نمتلك إجابات عنها: "كيف لنا أن نجمع شهادات هذا الكم الغفير من البشر الذين شاركوا في الثورة؟ وكيف سنفهرس ونحفظ هذه الشهادات؟ "ثم سألنا أنفسنا سؤالا أكثر صعوبة ثبت لاحقا أنه أصاب مشروعنا في مقتل: "بما أننا، عمليا، لجنة حكومية، وأنه من الواضح أن الحكومة ما زالت تقبض على أصدقائنا ورفقائنا، وأن ثورتنا لم تنتصر بعد، وأن النظام ما زال باقيا بل أنه يتعافى، في ظل وضع كهذا، هل بوسعنا فعلا أن نضمن أن الشهادات التي سنجمعها لن تقع في أيدي الأجهزة الأمنية، وتلك المسماة "سيادية"، وهو الأمر الذي قد يفضي بصاحب الشهادة لأن يجد نفسه متهما وأن تكون شهادته هو نفسه دليل إدانته؟"
وعلى قدر ما كانت هذا الأسئلة صعبة، فإنها لم تكن أكثرها صعوبة.كانت هناك أيضا أسئلة تتعلق بالتاريخ: "متى انتهت الثورة؟ ومتى نتوقف عن التوثيق؟ عندما أجري الاستفتاء على التعديلات الدستورية؟ أم عندما أجريت الانتخابات البرلمانية؟ أم عندما أجريت الانتخابات الرئاسية؟" وبما أننا وجدنا أنفسنا نسير في جنازة تلو الأخرى لأحد شهدائنا، ونقف وقفة احتجاجية تلو الأخرى مناصرة لإحدى صديقاتنا، ونقوم بزيارة تلو الأخرى لمشرحة زينهم تعاطفا لأسر ضحايا الداخلية، فيصح أن نتساءل: "هل انتهت الثورة حقا، أم أنها مازالت مستمرة؟"
على أن أكثر الأسئلة صعوبة لم تكن تلك المتعلقة بنهايات الثورة، بل ببداياتها. هل قامت الثورة يوم ٢٥ يناير، يوم عيد الشرطة، عندما نزلنا بالملايين اعتراضا على ممارسة الداخلية للتعذيب المنهجي في الأقسام والسجون وأماكن الاعتقال الأخرى؟ أم قامت الثورة يوم ١٤ يناير، عندما هرب زين العابدين بن على من تونس إلى السعودية مما جعلنا، نحن المصريين نقول، "لوعملوها التوانسة، طاب يمكن احنا كما ننقدر نعملها"؟ أم قامت ليلة رأس السنة عندما استُهدفت كنيسة القديسين وعندما حامت شكوك حول تواطؤ الداخلية في هذه العملية الإرهابية؟ أم قامت قبل ذلك بشهور عندما قتلت الداخلية الشاب السكندري خالد سعيد في وضح النهار؟ أم قامت يوم ٦ ابريل عام ٢٠٠٨ عندما أضرب الآلاف من عمال المحلة ونزل الناس للشوارع تضامنا معهم وانتصارا لهم؟ أم قامت عام ٢٠٠٤ مع تشكيل حركة كفاية التي ما انفك أعضاؤها يتظاهرون أسبوعا بعد أسبوع وشهرا بعد شهر وعاما بعد عام ضد حكم مبارك وفساده؟ أم قامت عام ٢٠٠٣ عندما تظاهرنا ضد ضرب العراق وعندما احتللنا التحرير لساعات قليلة؟ أم قامت عام ٢٠٠٠ عندما زار شارون الحرم الشريف بالقدس ونجح طلابنا من الخروج بمظاهراتهم خارج أسوار الجامعة رافعين أعلام فلسطين ومتضامنين مع الانتفاضة الثانية؟
كنت مع زملائي في لجنة توثيق الثورة نطرح هذه الأسئلة، وغيرها الأكثر صعوبة.
في أواخر حكم مبارك، هل كنا نتظاهر ضد التوريث وضد محاولات الرئاسة أن تحول نفسها عمليا إلي بلاط ملكي؟ هل ثُرنا ضد الممارسة المنهجية للتعذيب في أقسام الشرطة؟ هل كنا نتظاهر اعتراضا على تلك المعادلة البائسة التي طرحها علينا مبارك والتي خيّرنا بها بين الاستقرار والحرية، قائلا إما أنا أو الفوضى؟
أم كانت لثورتنا جذورا أعمق وأطول؟ هل كانت ثورتنا ثورة على حكم مبارك فقط، أم كانت أيضا ثورة على نظام يوليو برمته؟ هذا النظام، هو الآخر، عرض علينا خيارا بائسا: تخلوا عن حقوقكم السياسية والدستورية في نظير منحكم بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. هل كنا نثور تمسكا بحقنا في التمتع يحقوقنا الاقتصادية والسياسية معا؟
عندما تمكنا من شل حركة الداخلية يوم جمعة الغضب، يوم أن طغت أعدادنا الغفيرة على أسلحة الشرطة وعتادها، هل استطعنا أخيرا أن نقوم بما لم نستطع القيام به يومي ٩ و ١٠ يونيو ١٩٦٧، عندما نزلنا للشوارع في حالة هستيرية لا لكي نحاكم المسؤول عن هزيمة الجيش المروعة بل لنستجدية للعدول عن التنحي؟
هل اسطعنا أخيرا أن نقتل الأب؟
أم أن لثورتنا جذورا أعمق حتى من تلك؟ هل كنا نثور ضد منظومة الدولة المصرية الحديثة التي أرسى قواعدها محمد علي؟ عندما أتى ذاك القولةلي لبلادنا عازما على تحويل مصر من مجرد ولاية عثمانية إلي ضيعة يورثها لذريته من بعده ليحكموها لمدة مائة عام بعد وفاته، أنشأ جيشا هيمن به على كل مناحي الحياة في البلاد. هل كنا نثور على الدولة التي ولدت من رحم هذا الجيش، جيش استعبد الفلاحين وأهانهم وسخرهم للقتال في حروب أسرية لا قومية، وللتضحية في سبيل أغراض ليست أغراضهم، وللموت في حروب ليست حروبهم؟
***
هذه هي الأسئلة التي وجدتني أطرحها على نفسي عندما ترأست لجنة توثيق ثورة ٢٥ يناير. هذه الأسئلة حثتني على الاعتقاد أن ثورتنا لم تكن فقط ثورة ضد مبارك وزبانيته، بل كانت ثورة ضد دولة يدها ملطخة بالدماء.
هذه الدولة المصرية الحديثة لم تبنَ على أي قاعدة دستورية أو حقوقية، فلم يكن هناك أبدا عقد يضبط علاقة الحاكم بالمحكومين. فمؤسس الدولة هبط علينا هو وحاشيته وبطانته كالنسور الجوارح ينهشون لحمنا ويمصون دماءنا، والارستقراطية الزراعية، أو مايمكن أن نسميه مجازا "أرستقراطية زراعية" أي المماليك، الذين كان باستطاعتهم أن يحدوا من سلطة هذا الطاغية ويخضعونه لقدر ما من المساءلة، هذه الأرستقراطية أبيدت وذبحت، حرفيا لا مجازا.
هذه دولة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها خذلت مواطنيها. هذه دولة الطغيان يجري في دمائها. هذه دولة تعاني من أزمة شرعية هيكلية.
***
وعلي مدار قرنين طويلين لم ندخر وسعا في مقاومة هذه الدولة المتسلطة. فعلى عكس ما تعلمناه في مدارسنا، نحن لم نقم بثورات فقط ضد المحتل الأجنبي، فرنسيا كان أم إنجليزيا. بل قاومنا هذا الطغيان المحلي بكل ما أوتينا من قوة.
ففي عام ١٨٢٢وفي أعقاب موجات متلاحقة من السخرة والتجنيد والضرائب هب المصريون في ثورة عارمة في الصعيد، من قنا لأسوان، في ثورة استغرقت شهورا أربعة شارك فيها عشرون ألف فلاح وفلاحة وانتهت بقتل أربعة آلاف منهم. وفي العام التالي، ١٨٢٣، انتفضت الدلتا بأسرها ضد سياسات الدولة القمعية، واضطر محمد علي لأن يذهب بنفسه لكي يدك القرى المتمردة بستة مدافع ميدان. وفي عام ١٨٤٤ هبت المنوفية في ثورة عارمة أحُرقت فيها أجران الميري، وأخذ الفلاحون عمال الباشا كرهائن وقُلعت حقول القطن. وفي عام ١٨٦٣ اندلعت ثورة أخرى في الصعيد في نفس المناطق التي كانت قد اندلعت فيها ثورة ١٨٢٢.
وفي ١٨٧٩-١٨٨٢ ثرنا مرة أخرى، ولكن هذه المرة ثورتنا تجاوزت خطوطا اجتماعية وسياسية واقتصادية عديدة، حتى أصبحت ثورة وطنية عمت البلاد من أدناها لأقصاها. وكان الغرض الأساسي للثورة، عكس ما علمونا في مدارسنا، ليس التخلص من المحتل الأجنبي، بل إخضاع ذلك الوحش الذي نشأ بين أكنافنا، أي الدولة، لرقابة دستورية. وبالتالي لم تكن صدفة أن رفعنا وقتها "شعار "مصر للمصريين" نؤكد به على حقنا كشعب في العيش بكرامة في وطننا. وكانت فكرة الدستور هي ما أجمعت عليه قطاعات عديدة من الشعب كحل لتغول الدولة وبطشها. كانت الثورة على وشك النجاح لولا تدخل الإنجليز السافر مناصرة للخديوي حليفهم. ففي١١ يوليو ١٨٨٢ دكت مدافع الأسطول الإنجليزي الإسكندرية وسرعان ما أن غزت القوات الإنجليزية البلاد ودشنت بذلك فترة احتلال دامت لأكثر من سبعين سنة.
شتت الاحتلال الإنجليزي جهودنا، ووجدنا أنفسنا نسعى ليس فقط لتحقيق إصلاحات دستورية ولكن أيضا لمقاومة المحتل الأجنبي. وبعد هزيمة جيش عرابي بعقدين ونصف ثرنا مرة أخرى في ثورة عظيمة عام ١٩١٩ مطالبين بالاستقلال وبالدستور معا. وعندما ظننا أننا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مآربنا، تدخل الإنجليز في عملية صياغةالدستور ونجحوا في أن يخرج دستور ١٩٢٣بالشكل الباهت الذي خرج به: صلاحيات ضخمة للملك على حساب البرلمان. وبالتالي جاء دستور ١٩٢٣ أقل كثيرا من تطلعات ثورة ١٩١٩.
وبالتالي فإن العصر الذهبي للليبرالية المصرية، ١٩٢٣-١٩٥٢، لم يكن ذهبيا أو ليبراليا. فالإنجليز جاثمون بجيشهم على صدورنا أجمعين، والملك يستخدم صلاحياته الدستورية لكي يحل البرلمان ويدعو لانتخابات تشريعية وقتما يحلو له، والأحزاب عاجزة عن تطوير سياساتها أو تقديم حلول لمشكلتي الاستبداد المحلي والاحتلال الأجنبي. وفي ضوء هذا التأزم الهيكلي ونظرا لعدم تلبية المؤسسات السياسية لمطالبنا نزلنا للشوارع في الثلاثينات والأربعينات بعشرات الآلاف وأحيانا بالملايين. ويجب هنا أن نتذكر أن أول احتلال للتحرير (وكان وقتها يسمى ميدان الاسماعيلية) تم يوم ٢١ فبراير ١٩٤٦عندما احتشدت الجماهير في مظاهرة عارمة في طريقها للقنصلية البريطانية مطالبة بالجلاء وإذ بجيش الاحتلال يرد بإخراج مدرعاته من قشلاق قصر النيل (محل فندق هيلتون والجامعة العربية الآن) ليدهس المتظاهرين ويقتل ١٥ منهم، وليدشن بذلك طريقة للتعامل مع المظاهرات السلمية نقلها عنهم بالمسطرة جيشنا يوم ٩ أكتوبر ٢٠١١ في مجزرة ماسبيرو التي راح ضحيتها ٢٨ متظاهرا.
لم تنفرج هذه الأزمة السياسية الهيكلية إلا عندما قام جمال عبد الناصر مع "ضباطه الأحرار" بانقلابهم يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وسرعان ما أن ألغوا الملكية، وعلقوا الدستور، وحلوا الأحزاب، وعطلوا الحياة السياسية، ومنعوا سياسيي "العهد البائد" من ممارسة السياسة، وقبضوا على الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان وعرضوهم لأنواع من التعذيب يدمي لها الجبين، وألقوا بمئات الشيوعيين في غياهب السجون. ومن لم يُقتل أو يُسجن أو يُعذب أو يهاجر سار وراء الزعيم المفدى في زحف مقدس إلى الهاوية. وعندما انتبهنا واستفاقنا من غيبوبتنا بعد هزيمة يونيو المروعة خرجنا إلى الشوارع في ١٩٦٨ منددين بالأحكام المخففة التي نالها ضباط الجيش المسئولين عن هذه الهزيمة المنكرة. وبعدها بعامين اكتظت جامعاتنا بالمتظاهرين الذين نددوا بسياسة عدم الحسم الذي كان السادات ينتهجها تجاه عدوتنا اللدودة، إسرائيل. وبعدها بخمس سنوات، وفي يناير ١٩٧٧، نزلنا بالملايين مرة أخرى منددين بالسياسات الاقتصادية التقشفية التي أعلنتها الحكومة دون دراسة أو مشورة أو تمهيد. وبعدها بتسع سنوات، في ١٩٨٦، ثار إخواننا في مسعكرات الأمن المركزي ضد المعاملة غير الآدمية التي كانوا يتلقونها أثناد تأدية"خدمتهم الوطنية". وبعدها بأربعة عشر عاما نزلنا مرة أخرى للشوارع معترضين على زيارة شارون الاستفزازية للحرم الشريف بالقدس، وبذا وجدنا أنفسنا نكمل الدائرة ونمهد لثورة يناير.
***
ثورتنا إذن ليست ثورة فيسبوك، ولا هي مؤامرة أجنبية، ولا هي محاولة من "شوية عيال" مأجورين ومدربين في صربيا على إسقاط الدولة كما يدعي النظام الحالي وأبواقه الإعلامية في تحليل أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه ضرب من الهوس والهطل.
إننا كشعب في حالة ثورة مستمرة منذ أوائل القرن التاسع عشر، وما ثورة ٢٥ يناير إلا آخر مرحلة من مراحل كفاحنا لإجبار الدولة المستبدة على خدمتنا بدلا من أن تسخرنا نحن على خدمتها.
***
لماذا استعصت علينا هذه المهمة؟ لماذا يصعب علينا إنهاء وضعنا كرعايا في وطننا ولماذا نجد كل هذه المشاق لإجبار دولتنا على التعامل معنا كمواطنين ذوي حق أصيل في هذا البلد؟
هناك خمسة أسباب وقفت، وما زالت تقف، أمام محاولاتنا الإقامة نظام ديمقراطي في بلادنا.
أولا، إن الحقبة الاستعمارية من تاريخنا الحديث والواقع ما بعد الاستعماري من تاريخنا المعاصر يوضحان كيف أنه، وبالرغم من كل حديث الغرب عن نشر الديمقراطية، فإن هذا الغرب نفسه لم يدخر وسعا لكي يجهض جهودنا التحررية ويقضي على كل مبادراتنا الدستورية. فكما أوضحت أعلاه، لم يتردد الإنجليز عام ١٨٨٢ في التضحية بالحركة الدستورية الوليدة وفي الانتصار لحليفهم المستبد، الخديوي توفيق. وكرروا نفس السيناريو عام١٩٢٢ عندما تدخلوا بشكل سافر في عملية كتابة الدستور، ورجحوا كفة القصر على حساب البرلمان، وأعطونا استقلالا منقوصا مشوها. وعندما أفلت شمس الامبراطورية البريطانية وسطع نجم أمريكا في المنطقة بل في العالم لم تفوت واشنطن الفرصة لكي تدعم الديكتاتورية في بلدنا كما فعلت في سائر البلدان العربية .
ثانيا، كان لامتداد الصراع العربي الإسرائيلي على مدار قرن كامل أبلغ الأثر على جهودنا التحررية، فهذا الصراع شتت جهودنا، واستنزف قدراتنا، واستخدمه حكامنا بخبث وخسة حتى يأجلوا تنفيذ أية إصلاحات ديمقراطية. "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" شعار رُفع لإسكات أي صوت ينادي بالحرية والديمقراطية وبالمشاركة المجتمعية. كما أن هذا الصراع عزز من وضعية الجيش في مجتمعاتنا، وعندما فشل الجيش في التصدي للهيمنة الإسرائيلية على الحدود حول جهوده إلى الداخل وكرس جهوده لبناء امبراطورية اقتصادية ولفرض هيمنته على شتى مناحي الحياة السياسية الاجتماعية والاقتصادية. وكان من الطبيعي أن ينظر الجيش لنا بشك وعداء بعد أن علت أصواتنا تطالب بالديمقراطية والشفافية والمحاسبة.
ثالثا، أثبت ظهور النفط في منطقتنا أنه كان نقمة علينا كشعوب بقدر ما كان نعمة على حكامنا. فالأنظمة الرجعية المحافظة لم تدخر وسعا في تعضيد القهر والاستبداد والظلم. وما انتصار الثورة المضادة في مصر والبحرين سوى خير دليل على التأثير الكارثي لأموال النفط على الجهود الديمقراطية في بلادنا.
رابعا، إن مأساة ثورتنا تكمن أيضا في عدم استطاعتنا كشعب أن ننظر للماضي لنختار لحظة نتفق عليها جميعا كأساس (متخيل) قد تصلح كنقطة انطلاق للمستقبل. أو بعبارة أخرى، لا توجد حقبة تاريخية ما نجحنا في الاتفاق على محوها من ذاكرتنا لكي نستطيع أن ننهض من كبوتنا. فلو نجحنا في التخلص من مبارك، هل يعني ذلك أن نبني على ما تركه لنا أسلافه، السادات أو عبد الناصر؟ هل نود جميعا أن نعود لناصرية الستينات؟ هل نحلم بالعودة للـ"عصر الذهبي للحكم الليبرالي" وبه ما به من استعمار واستبداد وفساد؟ وبالطبع لا يوجد بيننا من يود للعودة لحكم الخديوي، اللهم إلا بعض المصابين بنوستالجيا الخديوي اسماعيل وحريمه. لايوجد لدينا عصر ذهبي في الماضي يمكن استخدامه للبناء عليه حتى ننطلق لمستقبل أكثر رحابة وأنسا.
خامسا، ولزيادة الطين بلّة، فإن مأساة ثورتنا تكمن في أننا في محاولتنا كشعب أن نواجه استبداد الدولة وجدنا أنفسنا نطرح سؤالا آخر مستعصيا، سؤال لم نستطع إيجاد جواب له على مدار القرن المنصرم، وأعني بذلك سؤال الهوية، والإسلام السياسي، وعلاقة الدين بالدولة. ففي خضم جهودنا لإيجاد جواب لسؤال علاقة الجيش بالسياسة، وجدنا أنفسنا مضطرين للإجابة على السؤال الآخر الأكثر صعوبة، سؤال علاقة الدين بالسياسة. وهذا، بدوره، ذكرنا بأسئلة وجودية طرحناها على أنفسنا طوال عقود طويلة خلت، أسئلة جاءت الآن لتطل علينا ولتجدنا في أسوأ لحظة للتعامل معها.
***
لكن وبالرغم من كل هذه التحديات التاريخية، فأنا مازلت متفائلا بنجاح هذه الثورة. لا أقصد أن الثورة ستنتصر اليوم أو في الشهر القادم أو في العام القادم أو حتى في العقد القادم. فبناء على العوائق التاريخية التي ذكرتها سيكون من السذاجة الاعتقاد أن المسألة مسألة أيام أو شهور، وسيكون من العبط أيضا الاعتقاد أننا سننتصر بضربة قاضية تطرح هذه الدولة أرضا وتقيم مجتمعا فاضلا بين ليلة وضحاها.
ولكن وبالرغم من الانتصار المدوي للثورة المضادة، فأنا على يقين بأن المستقبل لنا وأننا نشهد الآن بداية نهاية هذه الدولة المستبدة.
تفاؤلي منبعه عاملان أساسيان. الأول هو أننا وإن كنا في حراك ثوري لمدة قرنين من الزمان، إلا أن ما قمنا به في ثورة يناير فاق في أهميته ما سبقه من إنجازات. نحن أثبتنا لأنفسنا أننا أصحاب إرادة وصوت وعمل. لقد نجحنا بحراكنا وعزيمتنا إن نحدث تغييرا عميقا، فلم يحدث من قبل وعلى مدار تاريخنا الممتد لآلاف السنين أن نجحنا في إجبار حاكم على التنازل عن حكمه وعلى زجه في السجن. صحيح أن لحظه انتصارنا هذه لم تدم طويلا، إلا أنها لحظة كاشفة ولا يجب أن نقلل من أهميتها أو نستهين بدلالتها.
أما السبب الثاني والأهم هو أننا فتحنا باب السياسة على مصراعيه. الدولة كانت –ومازالت – تود أن تقصر السياسة على السياسيين: المسئولين الحكوميين، وضباط الشرطة والجيش، والخبراء الاستراتيجيين، وغير المغضوب عليهم من المتعطشين للسلطة والجاه. أما السياسة الآن فأصبحت موضوع حديث الجميع واهتمامهم، ليس فقط الطلاب في جامعاتهم أو العمال في مصانعهم أو الشباب في مساجدهم. السياسة الآن موضوع حديث الناس في القهاوي، وفي وسائل المواصلات، وبين ربات البيوت، وحتى في غرف النوم. السياسة لم تعد حكرا على السياسيين، بل أصبح الشعب ممارسا لها ومتعطشا لها. صحيح أن الدولة تحاول أن تحث الشعب على التخلي عن هذا الاهتمام المفاجئ بالسياسة وأن يخلد للراحة وأن يفوض الأمر لأولي الأمر، إلا أنه من المستحيل أن يعود المارد إلى القمقم بعد أن خرج منه.