صور وشجن وتعويذة أم - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صور وشجن وتعويذة أم

نشر فى : الأربعاء 26 يناير 2022 - 10:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 يناير 2022 - 10:15 م
حين أصور العالم من حولى، خصوصا المناسبات العائلية والاجتماعية، كثيرا ما أتخيل أولادى يعودون إلى الصور يوما ما فى المستقبل ويفرحون بها وهم يحاولون إعادة التعرف على السنة والمكان ووجوه بعض الموجودين. أنا أقارن فرحى وشجنى حين أعثر على صور مطبوعة بهتت ألوانها ومالت للاصفرار فيها أمى شابة وجدتى من أمى أو من أبى قوية تبدو وكأنها متحكمة بالمشهد أو تراقبه برضا، أرى كعكة عيد ميلاد وشموع وطفلة (أنا) تضع يدها فى الكعكة بينما يبتسم من حولها.
• • •
اليوم ومع الصور الرقمية، أظن أن العودة إلى مراحل حياتى وحياة أطفالى ستكون أسهل إن أحسنت من تخزين الصور. أظن أننى سوف أحفظ اللحظات هذه من الاصفرار رغم أننى أحب ألوان الصور الباهتة كحبى لجدتى اللتين رحلتا وأتخيلهما اليوم بألوان باهتة وبكثير من الدفء. ابنى الأوسط يتمنع ولا يحب أن أصوره، فأذكره فى كل مرة أنه سيشكرنى فى المستقبل حين يعود إلى هذه اللحظات ويعيد تركيب طفولته فيتذكر عيد ميلاده يوم توقعنا عاصفة ثلجية، أو يوم خبزت له أمى كعكة الليمون التى يحبها إذ كنت أنا غائبة عن يومه بسبب العمل.
• • •
ابنى لا يصدقنى حين أقول أن العودة إلى الطفولة من خلال الصور سيكون بمثابة كنز يكتشفه بعد سنوات. من الصعب شرح مفهوم كهذا لمن هم أصغر سنا ولم يحاولوا بعد التحايل على الوقت ومحاولة الإبطاء منه بغية التمرغ بلحظات لن تعود. هذا الإدراك يأتى بأثر رجعى بعد أن يصبح بجعبة أحدنا مخزون طويل من السنوات يتمنى أن يعود إليها إما بسبب الحنين أو لأننا نملك اليوم بعض الأجوبة التى قد تقلل من القلق أو الاضطراب الذى لا يظهر فى الصور المصفرة إنما نعرف أنه كان مهيمنا على تلك الفترة من حياتنا.
• • •
أما ابنتى، فهى تحرص على الظهور فى كل الصور كأنها تؤرخ حياتها فى سنواتها الأولى. أتساءل أحيانا إن كانت تخطط لمشروع كبير ستحتاج أن تقص وتلصق من خلاله صورا كثيرة فتصر اليوم أن توثق أيامها والتغييرات من حولها. أتخيلها فى المستقبل هى أيضا تعود إلى مراحل حياتها لتحاول أن تفهم تصرفاتى ووالدها وتحاول أن تستجمع العالم من حولها علها تفهم التغييرات المجتمعية التى كنا نمر بها وتقول «معقول؟ هكذا كانوا يفكرون؟».
• • •
نعم معقول! العالم يتغير بسرعة بينما يتمسك بعضنا بصور لم تعد تنطبق على المجتمع وعلى الحياة الحديثة كمن يتمسك بالصور المصفرة. الصور جميلة وجمالها يزداد مع الزمن ومع تجميل نضفيه بأثر رجعى على حياتنا وحياة من سبقونا. نصر أن الحياة كانت أبسط، والعلاقات الإنسانية أكثر صحية مع ضوابط وقواعد تراعى خصوصيتنا الثقافية وقيم المجتمع، مظهرنا كان أكثر أناقة ونظافة، أولادنا يبدون أكثر أدبا وشقاوتهم أكثر براءة، شوارعنا أكثر نظاما. هل تجدون نفسكم فى هذا الوصف؟ إذا كان جوابكم هو نعم فها أنا أقول أنكم فى مرحلة عمرية تجمل الماضى وتنظر إليه بشجن. أنتم تحنون إلى مرحلة الشباب والقوة والاندفاع والأحلام ومحاولتكم القبض على المستقبل. ها هو المستقبل الذى حاولتم القبض عليه يقف أمامكم لماذا صرتم تتراجعون عنه لتختبئوا فى صور اصفرت ولم يكن مضمونها يعجبكم ربما بوقتها؟
• • •
ربما لأننا جميعا نجلد أنفسنا على حاضر لا نراه مناسبا لحجم أحلامنا الماضية. ربما لأننا ما زلنا نتعارك مع خيبات جمعناها عبر السنوات وها نحن ننظر إلى صور قديمة تظهر أعياد ميلاد ومناسبات عائلية دافئة لا تعكس خيبات سياسية أو اجتماعية نعيشها اليوم.
• • •
إن نظر أولادى إلى صور اليوم بعد عشرين أو ثلاثين سنة ماذا سيتذكرون؟ أريدهم أن يعودوا إلى لحظة احتفالى بسنتهم الجديدة وأن يعرفوا أننى فى تلك اللحظة كنت أطلق تعويذة من وسط قلبى لتحميهم وتعطيهم سنوات طويلة يعيشون فيها الأحلام والخيبات التى ستقوى من عزمهم وتجعلهم يؤمنون أن التغيير ممكن ولكن بحدود، والثورات تأتى بشكل دورى فتقوم معها الدنيا ثم تقعد ونتعلم بين دورتين. حين يعود أولادى إلى صور اليوم أتمنى أن يدركوا أننى لحظة التقاط الصور كنت أود أن أعيدهم إلى رحمى من شدة حبى لهم وأملى أن يكبروا وهم مرتاحين مع قراراتهم وخياراتهم. لحظة التقاط كل صورة كان قلبى يفتح يديه ليضمهم ويحثهم على متابعة معاركهم بما يرونه مناسبا لجيلهم والتغييرات من حولهم.
• • •
لا أريدهم أن يجعلوا من اليوم أيقونة إنما أريدهم أن يعرفوا أن اليوم كان جميلا وحبى لهم سيبقى كما هو يتدفق من مكان دفين فى داخلى مهما فعلوا وابتعدوا، الصورة تخلد لحظة حب لن تتغير مهما تغيروا ومهما جار عليهم وعلينا الزمن، وأتمنى ألا يقسو الزمن علينا كثيرا.
• • •
قد لا أطبع الصور الرقمية وقد تحتفظ هذه الصور بألوان زاهية ولا تبهت فتثير الشجن عند أجيال قادمة، أملى أن تحفظ الصور لحظات من السعادة والحب والدفء يعود إليها أطفالى حين يشعرون بالحزن أو الوحدة فيعرفون أننى، أى أمهم، ما زلت أهمس بتعويذات تحميهم حتى حين يكبرون ويبتعدون.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات