نيوزيلندا.. هم ونحن - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نيوزيلندا.. هم ونحن

نشر فى : الثلاثاء 26 مارس 2019 - 1:45 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 26 مارس 2019 - 3:01 م

فى بساطتها وحنوِها، بدت السيدة «جاسيندا أرديرن» رئيسة وزراء نيوزيلاندا مثل أمٍ تأسو جرحا غائرا أصاب ابنَها. وفيما كانت حركاتها حصيفة واثقة وهى تنظف الجرح، وتنشر عليه بلسما مسكنا، وتُحكم فوقه الضمادة، كان صوتُها يبث فى نفس الصغيرِ الأمان.
***
فى تعاملها مع الهجوم الإرهابى الذى قتل خمسين مصليا وجرح العشرات فى مسجدين بمدينة «كرايستشيرش»، وصلت السيدة أرديرن إلى حد الإبداع السياسى فى إدارة الأزمة. قد لا يتفق معى البعض، ويرى فى خطابها العام إسرافا فى بذل العاطفة على حساب العقل، أو تغليبا للإجراءات المسكنة على حساب العلاجات الجذرية الناجعة. لكن مهلا، أدعوكم لقراءة السطور التالية التى أجتهد فيها لتفكيك خطاب أرديرن السياسى سعيا لاكتشاف ما وراء العاطفة.

***
بالفعل، بدا الزخم العاطفى عالى النبرات منذ اللحظات الأولى لاندلاع الأزمة. فما إن وقعت الواقعة، وخرجت صور القاتل الإرهابى فى بث حى على وسائل التواصل وهو يستهدف المصلين المسالمين ببندقيته المزخرفة بعبارات عنصرية، سارعت رئيسة الوزراء إلى التماهى مع ألم الضحايا. رأيناها ترتدى الحجاب الإسلامى إذ تحتضن الأرامل والثكالى. تقود السياسيين لزيارتهم معها. تفتتح جلسة البرلمان بتحية الإسلام: السلام عليكم. تزور المدارس وتتحدث إلى الطلاب الذين فقدوا رفاقهم فى الهجوم بلغة بسيطة مؤثرة تدعوهم فيها إلى أن يكون مستقبل البلاد خاليا من كل عنصرية.

نعم، كان الخطاب حافلا بالمشاعر الجياشة التى استوعبت الدموع المنهمرة وسكنت حسرات النفوس الملتاعة. لكن العاطفة كانت يقِظة فى خوضها فى بحر الآلام، فلم تنسَ صاحبتُنا الإجراءات اللازم اتباعها لاجتثاث الشر من منبته. والأهم هو أن العاطفة كانت صادقة وأمينة، فلم تبتذلها صاحبتها لامتصاص الغضب لأغراض وقتية أو تفتعلها لفرضِ مصالحاتٍ عرفية شكلية.

فماذا فعلت السيدة أرديرن؟
***
لعل أبرز نجاح سياسى حققته السيدة هو تمكنها فى أقل من ستة أيام على وقوع المذبحة من استصدار قرار بحظر الأسلحة نصف الآلية المنتشرة فى البلاد. وهو قرار أخفقت فى استصداره حكومات بلدها المتعاقبة فى محاولات باءت بالفشل أعوام 2005، و2012 و2017. وهو أيضا قرارٌ تكافح القوى المضادة لانتشار السلاح فى المجتمع الأمريكى ويرفض الرئيس ترامب تطبيقه، مغلبا بذلك مصالح رابطة الأسلحة القومية NRA على مقتضيات السلم المجتمعى. لكن السيدة وضعت حلفاءها فى حزب «نيوزلندا أولا» أمام الأمر الواقع فى خضم الأحداث، وبنعومة شديدة، انتزعت منهم موافقة على حظر السلاح، رغم ما عُرف عنهم من أفكار معادية للمهاجرين ومعارضة للحد من انتشار السلاح.

وبجرأة مماثلة، رفضت أرديرن تسييس الكارثة، وكانت من القوة والحسم بحيث لم تتردد فى أن تنتقد على الملأ ما كان من استغلال الرئيس التركى رجب طيب أردوغان للحدث فى خضم حملته الانتخابية، وتأجيجه لمشاعر المسلمين الملتهبة حول العالم. بل سارعت أرديرن إلى إيفاد نائبها «ونستون بيترز» فى زيارة إلى تركيا لشرح عواقب الموقف التركى على محاولاتها فى رأب الصدع داخل بلادها.

وفى خضم العواطف المشحونة والمشاعر الفياضة، لم تنسَ السيدة أرديرن أن توجه إصبع الاتهام إلى منصات التواصل الاجتماعى وفى مقدمتها فيسبوك، التى استخدمها المجرم لعرض بث حى لجريمته الإرهابية الشنعاء. لقد أدركت السيدة الشابة ما للصورة من سطوة فى عالم اليوم فى تأجيج مشاعر الكراهية واستنهاض الخلايا العنصرية النائمة واستثارة النوازع الثأرية. فما كان منها إلا أن وجهت نداء عالميا لاتخاذ تدابير دولية لمحاصرة مثل هذه الصور البشعة على الإنترنت، دون المساس بحرية التعبير ودون الإضرار بالحريات المدنية على غرار ما وقع فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر من مراقبات وملاحقات ماكارثية هددت الحقوق والحريات العامة.

****
لكن، فى رأيى، يظل مصدر القوة الأعظم وراء خطاب السيدة «أرديرن» هو حرصها على أن تُجنب بلادها السقوط فى خطيئة الاستقطاب. يكفى أن نقارنها بما فعلت امرأة أخرى على رأس السلطة فى ميانمار. امرأة توجها العالم بجائزة نوبل قبل أن تنسى قيمها الإنسانية وتقسم مجتمعها إلى «هم ونحن»، وتغمض عينيها عن التطهير العرقى ضد مسلمى الروهينجا، الذى أسفر عنه الاستقطاب الحاد فى ميانمار. امرأة لن أسميها إمعانا فى الذراية والاحتقار، بمثل ما فعلت السيدة «أرديرن» وهى تأتى على ذكر الإرهابى السفاح. فتعلن أنها لن تسميه باسمه، ولن تحقق له مبتغاه فى الشهرة عبر الآفاق، ولن تشير إليه إلا بكونه المجرم القاتل الإرهابى، نكاية فى الجانى واسترضاء للمجنى عليه.

ولكون نموذج «ترامب» جاثما على الأذهان، بعد أن استشهد به المجرم، بدت «أرديرن» بحجابها الأسود الحزين أشبه بتجسيد للمضاد الموضوعى لرئيس يروج لجماعات العنصرية البيضاء، ويستعمل خطاب الكراهية الذى عُرفت به، فيتحدث عن «غزو» المهاجرين على الحدود، ويدعى «كراهية الإسلام للغرب».

ولكون نموذج «أوشفيتز» لا ينمحى من الذاكرة الغربية، ولكون نموذج «سيربرينيتشا» غير بعيد عن الأذهان، لاسيما وقد حُكم على سفاح البوسنة أخيرا بالسجن مدى الحياة، فقد تجنبت رئيسة وزراء نيوزيلندا أن تقودها المحنة إلى السماح باستقرار بذور الاستقطاب فى تربة البلاد. فهى تعلم جيدا أن الاستقطاب مرحلة من مراحل الفتنة الدينية التى إن هى استفحلت قادت إلى الإبادة الجماعية والقتل على الهوية.

لقد أيقنت السيدة أرديرن منذ اللحظات الأولى للكارثة أن الإرهابى الأسترالى قد اختار بلادها الآمنة ليقوض هوية الدولة المحتفية بالتعددية الثقافية القائمة على التنوع العرقى. لذلك امتنع خطابها عن تقسيم الشعب إلى «هم» و«نحن». ودعت الشعب إلى لفظ الجانى وإلى التماسك وإلى مساعدتها للخروج من الأزمة. ولقد أبدع الشعب النيوزيلندى فى تحقيق الإرادة السياسية الداعية إلى إعلاء مشاعر الإنسانية النبيلة. فارتدت النساء الحجاب فى الشارع وعلى شاشات التلفزة، وخرج الناس لحضور خطبة الجمعة فى ساحة مسجد النور، وظل الشباب والشابات يؤدون كل يوم رقصة «الهاكا» الجماعية تكريما لمن قُتل من إخوتهم فى الوطن.

يقول البروفسور كومينى كورورانجى أستاذ الدراسات الخاصة بثقافة السكان الأصليين بجامعة كانتربرى: «عندما سقط إخوتنا المسلمون فى هذا الهجوم الإرهابى، سقطنا نحن. شعرنا حقا أنهم نحن. هنا فى نيوزيلندا ليس هناك هم ونحن».
لم أجد أبلغ من تلك الكلمات الصادقة سوى استعادة السيدة جاسيندا أرديرن للحديث النبوى الشريف فى خطبة يوم الجمعة الماضية حين قالت: قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

***
لقد جسدت رئيسة وزراء نيوزيلندا نموذجا يحتذى من قِبل الدول والحكومات فى تعاملها مع حقوق الأقليات وفى الحفاظ على دعائم المواطنة. فقد أظهرت سياساتها تحت الأزمة جوهر المدنية حين تسودها المساواة المؤطرة لمقتضيات العيش المشترك. لكن الخوف كل الخوف هو أن يُحدث هذا الخطاب المجافى للاستقطاب الاجتماعى ردة فعل تخلق استقطابا سياسيا، قد يستتبعه رفض «حزب نيوزيلندا أولا» المؤتلف مع حزب رئيسة الوزراء فى الحكومة. لكن الناظر إلى تماسك القاعدة الشعبية وراء اختيارات السيدة أرديرن لا يسعه إلا أن يتجمل بالأمل الحذر.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات