«نازلة دار الأكابر».. في مديح الكتابة - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«نازلة دار الأكابر».. في مديح الكتابة

نشر فى : الجمعة 18 مارس 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 18 مارس 2022 - 8:40 م

حين أنهيتُ قراءة رواية «نازلة دار الأكابر» للروائية والأكاديمية التونسية أميرة غنيم (دار مسكيليانى 2020)، تذكرتُ قول الأديبة الأمريكية تونى موريسون المجازى: التخييل هو أن تكسو الذكرى لحما. وهو ما صنعته كاتبة هذا العمل الكبير وهى تقبض على لحظة مفصلية فى تاريخ تونس الحديث، هى لحظة ثلاثينيات القرن الماضى التأسيسية، وتنجح فى مسرحة صراعاتها السياسية والمجتمعية والقيمية عبر شخوص نابضة بالحياة، حتى إننا لنتمثل حضورَهم لحما ودما وصخبا من حولنا طوال القراءة، ونتمثل أدق تفاصيل عصرهم ومعاشهم وآثارهم المنسحبة على وجه تونس إلى اليوم، فى رواية بطلتها الأولى هى الكتابة. 

• • •

كلا.. هى ليست بفسيفساء كما وُصفت.. فالفسيفساء بعد اكتمالها تبقى صماءَ ثابتة التكوين فى أعين كل من يراها. أما هذه الرواية فبناؤها السردى أشبه بنافذة من الزجاج المعشق الشفاف، انتظم فيها ما لا حصر له من رقاقات بلورية صغيرة تراكبت فيما بينها بحيث تتغيرُ تكويناتها اللونية وتختلج باختلاف النور المنبعث من ورائها على مر الزمن الروائى، وبتبدل أصوات الرواة، وبتغير عين الناظر.

وفى القلب من الزجاجية المخاتلة أيقونتان: إحداهما ابتُدعت من الخيال لامرأة من بنات الأكابر تناهز الكمال تدعى زبيدة، والأخرى استُجلِبَت من التاريخ لرجل قال عنه طه حسين إنه «سبق عصره بقرنيْن»، هو الطاهر الحداد (1899ــ 1935)، أحد أهم رموز تونس الإصلاحية. وبين الأيقونتين قصة حب مستحيل من نسج المخيلة، ورسالةٍ غامضة تصل فى ليلةٍ مشؤومة، لتُحدثَ نازلة فى داريْ اثنتين من كبريات عائلات طبقة «البَلْدية» المنتمية إلى أصول تركية والمرتبطة بطبقة الحكام المختارين من قبل المستعمر الفرنسى، لتتكشف عبر النازلة العائلية نازلة أخرى بحجم الوطن المنخرط فى نضالٍ مرير من أجل التحرر والمساواة، ما بين الأمس البعيد واليوم.

عشرُ رسائل يتناوب فيها الحكيَ عشرةُ رواة، ينطق فيها السادة والخدم، الرجال والنساء، الأسوياء والشُذاذ، العلماء والجهلاء، غلاة التقليد ومدّعو التحرر. ذلك هو جسد الرواية، تؤطره توطئة بقلم «هند» حفيدة زبيدة، وخاتمة بقلمها الكاشف السيال. ويمهد له تخطيط شجرة عائلية، هداية للقارئ فى دغل الشخصيات المتشابك وإمعانا فى الإيحاء بالواقعية.

• • •

فى بوتقة الحكى المدهش، تنصهر الحقيقة مع الخيال بحسابات دقيقة. ها هو الطاهر الحداد يهجر صورته الأيقونية المحفورة فى كتب التاريخ لتجرى أنسنته فى فصول الرواية. سيلوح طيفه فى خلفية الأحداث، وفى أحاديث الرواة، من دون أن نسمع صوته مباشرة. سنعرف عن قصة حبه المتخيَلة لزبيدة من دون أن نراهما فى مشهدٍ يجمعهما معا. سنرى فصول نضاله فى حزب الدستور من أجل الاستقلال على أثر الشيخ عبدالعزيز الثعالبى، وفى مواجهة محيى الدين القليبى. سنسمع أطرافا من نضاله النقابى إلى جوار محمد على الحامى لحفظ خيرات تونس المستنزفة من قبل فرنسا. سندخل إلى كواليس أزمة كتابه «امرأتنا فى الشريعة والمجتمع»، تلك الأزمة التى كانت ستارا لدفاع أعيان جامع الزيتونة الشرس عن مغانمهم الطبقية، والتى انتهت بتكفيره وبسحب درجته العلمية وبطرده من الحياة العامة. سنراه مشيعا بقاذفى الحجارة وبمدبِجى الهجائيات النارية الذين لم يقرأوا كتابه بل حركتهم الأهواء الطبقية والمصالح السياسية. سنأسى له فى مروية صديقه وهو يحرق كتبه فى معتَزَله، ليرحل مقهورا وحيدا فى الخامسة والثلاثين من العمر لم يشيعه سوى قلة قليلة إلى مثواه فى مقبرة الجلاز.

فى المواقف كلها سيحتجب حضور الحدَاد خلف أصوات الرواة، سيمر عبر الصفحات مثل ضيف شرف يعرف أن له من النجومية ما يغنيه عن احتلال كامل الشريط السينمائى، ومن المكانة الرمزية فى قلوب التونسيين ما يجعله يجسد المعيار الذى به تتحدد ملامح الشخصيات التى تتحدث عنه فى الرواية، من دون حاجة منه إلى الدفاع عن موقفه الذى سجله التاريخ له سالفا بكثير من الإجلال، يوم أصدر الحبيب بورقيبة صحيفة أحوال المرأة التونسية ووقف الذين كفَروا الحداد بالأمس ليهتفوا له بأمر الرئيس. 

• • •

بمثل ما توارى صوت الحداد فى متن الرواية، توارى صوت زبيدة. إذ إن الكاتبة لم تُفرد لها فصلا بصوتها كما صنعت مع بقية الرواة. وهو ما بدا مجافيا للمنطق بالنسبة لكثيرين، كنتُ واحدة منهم فى بداية القراءة. فمن العدل أن يُسمع صوتُ بطلة النازلة المتهمةِ فى شرفها، الحلوةِ الراجحة العقل، المنذورةِ للعنة وللعار وللعجز. 

لكن سرعان ما تبين لى أن أحكامَ الكتابة تفرض صورة مغايرة للعدالة الروائية، وبدا تجملُ زبيدة بالصمت خيارا حصيفا من الكاتبة كى تَبقَى جذوةُ الشك مشتعلة فى صدر القارئ، كما فى صدور الشخصيات. ففى هذه الرواية، الشك هو عمود الخيمة وعمادُ الأهواء من قبل أن تحلَ بدار الأكابر النازلة. يكفى أن تملك المرأةُ على زوجها قلبه ليشك النسوةُ فى اجتراحها السحرَ، ويكفى أن تكون المرأةُ ذات علم ورأى فى مجتمع الخرافة والتجهيل لتصبح محل ريبة وتساؤل. 

تقضى عدالةُ الكتابة إذن أن تَلزم زبيدةُ الصمت. فالصمتُ فعلٌ بمثل ما إن القولَ فعلٌ كما يقول اللسانيون. وصمتُ زبيدة يجمع بين جنباته مفارقةَ استنقاذ الخيال مع إكسابه سمتا واقعيا. فالصمتُ يغذى أسطورة العلاقة مع الحداد وينجيها من قبضة اليقين. الصمتُ تغليبٌ للتخييل وإذكاء للشائعات. وفى الوقت ذاته، الصمتُ رفيقُ الحبِ المستحيل، ينجيه من ابتذال البوح ويثنيه عن التمرغ فى الطين. 

فالمحبون فى الحقيقة عن أحوالهم لا يثرثرون.

ثم إن القضيةَ هنا ليست أن نعرف إن كانت زبيدةُ مدانة أم غيرَ مدانة، إنما القضية هى تعريةُ كذبِ ورياءِ مجتمع بأكمله، وإدانة كلِ من أرادوا قذفَ الطاهر الحداد بالحجارة لمطالبته بتحرِى مقاصد الإسلام فى معاملة المرأة، وبكفالة حقها فى التعليم وحماية وجودها الفاعل داخل الأسرة والمجتمع. القضية هى كشف كل من أرادوا حبس زبيدة فى القفص الذى ستُخرجه حفيدتها من الدهليز فى زمن آخر فينكشف لها أنه «قد عاد جديدا»، بعد المطر الهاطل الذى غسله، وبعد مكالمة زوج هند التى أمطرها فيها بوابل من مقذع الشتائم وهى الأستاذة الجامعية ذات القلم والمكانة فى مجتمع ما بعد ثورة الياسمين. وما زال القفصُ ينجرف مع السيل الهادر فى المشهد الختامى، فإما أن يكون رمزا للتتحرر أو رمزا لاحتمال تجدد الأسر. وهنا يجثم الشكُ مع مشهد النهايةِ بكامل ثقله للحظات. لكن الراوية تنطق بعبارة الأمل الخاتمة «وقريبا.. قريبا جدا تُفَتَح الأقفال».

• • •

الرواية بطلتها الكتابة، سرها الكتابة. ترقص الحقيقةُ فيها رقصة الحُجُب السبعة على لسان كل راوٍ وراوية، فتتكشف رويدا رويدا، بمقدار شحيحٍ فى كل مرة وإن كفى لإثارة الدهشة وطلب الاستزادة. الحقيقةُ هنا تتكشف ولكنها لا تتعرى أبدا بل تظل محتفظة بغلالة محيرة تزيد الشك وتغذيه.

«نازلة دار الأكابر» لأميرة غنيم هى كتابةٌ محقونة بجرعات مكثفة من القيمة المعرفية التى تطمح لرفد الحكاية بمعارف تاريخية وأنثروبولوجية واجتماعية عن بلدها. وهو ما ينمّ عن جهد بحثى قيم لرسم صورة الحياة فى تونس بكل مفرداتها وألوانها وأعطارها وخرافاتها وأمثالها الشعبية ومعالمها وأعلامها وحوادثها الجسام. وكأننا بصدد متحف للحياة التونسية، على غرار «متحف البراءة» الذى جمع فيه أورهان باموق كل مفردات الحياة اليومية لحبيبين فى اسطنبول، بعد أن قبض قبضة من أثر المدينة ليرسمَ وجه هويتها الإشكالية المثقلة بالمتناقضات والمآلات التى وصلت بالبلاد والعباد إلى ما وصلت إليه.

لكن الروائية تدرك كيف تبث خلسة هذا النثار المعرفى داخل طيات الحكى، بمثل ما تعرف كيف تحول أغنية لسيد درويش أو لمحمد العزبى إلى إضاءة مسلطة على نفسية الأبطال، وبمثل ما تعرف كيف تستخدم لوحة محمد الصادق باى حاكم تونس المسئول عن ضياعها وهو يتسلم السيف من إمبراطور فرنسا، فتعلقها فى جناح زبيدة فى منزل أهل زوجها، لتصنع من البطلة القعيدة رمزا للبلاد فى سنوات عجزها واحتلالها، ولتوحى بالعلاقة الوطيدة بين الطبقة التى ينتمى إليها حماها قاضى القضاة وبين الاستعمار!

الكتابةُ تتقن حرفة التشويق. تشويقٌ يُذْكِيهِ تأجيلُ عجلة السرد فى لحظات الكشف، وتؤطره وساوسُ الشك، وأحابيلٌ شهرزادية عليمة تحكى قصة الصراع الأزلى بين القديم والحديث، وتحول قارئها إلى مفتش مباحث يمسك بعدسةٍ مكبرةٍ اقتفاء لدلائل الجناية أو التماسا لبراهين البراءة.

الكتابةُ تعطى الكلمة لكل الفئات دون انحيازٍ أيديولوجى، لا لاقتضاءٍ سردى فنيٍ فحسب وإنما لكى تطبق عمليا مبدأَ المساواةِ الذى تطالب به. ووسط تداعى الأصوات، تمسك الكاتبةُ بخيوط السرد بإحكام، وتضع كل رقاقة بلورية صغيرة فى موضعها تماما فى الزجاجية المعشقة، وتمرر الأنوار من ورائها بالمقدار اللازم، بمتعة وإمتاع. متعة من يلعب لعبة ملك أم كتابة، فيختار فى كل مرة الكتابة!  

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات