قراءات فى ملحمة الحرافيش القراءة الأولى.. خواطر ليلة بيضاء - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:05 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءات فى ملحمة الحرافيش القراءة الأولى.. خواطر ليلة بيضاء

نشر فى : الإثنين 4 أبريل 2022 - 7:20 م | آخر تحديث : الإثنين 4 أبريل 2022 - 9:14 م
نداهةٌ فى المكتبة. ينسابُ صوتُها الهامس كلما عرفَتْ أنى فى الجوار. يتسارعُ نداؤها كلما وقفتُ أطالع الرف المخصص للنجيب. فإذا فتحتُ الضلفة الزجاجية التى تقبع وراءها، مستقرة فوق حاملٍ خشبيٍ صغير، تدبُ فى الوجوه المطلة من غلافها الحياة، وتأتينى منها أصداءُ صلوات التكية واصطكاكِ النبابيت وصلصلة عجلة الزمن، ويتعاقب فى سماء الغرفة الليلُ والنهار فى تسارعٍ يطوى الزمان ويعبر الأجيال. ومن حيث لا أدرى، تنفتحُ الرواية بغتة، وكأن ريحا غامضة راحت تقلب أوراقها، لتخرج منها الكلمات سراعا كالدخان الأبيض المسحور.
• • •
نُسخةٌ قديمة مهترئة، ضممتُ أوراقها بأكثر من شريط لاصق شفاف، ودونتُ فى هوامشها انطباعات القراءات المتتالية، وفضلتُها على نسخ الرواية نفسها التى تقبع فى هدوء وسط بقية أعمال نجيب محفوظ. اكتشفتها ذات صباحٍ فى مكتبة أبى رحمه الله.. رغم أنه كان قد رحل إلى الضفة الأخرى منذ سنين، ففى ذلك اليوم الذى امتدت إليها يدى أول مرة، كأننى سمعت ضحكته ترن فى أذنى وأنا ألتقط الرواية من على الرف وأمسح عنها غبارا تراكم فوقها. وكأنها يئست من أن تمتد إليها يدٌ أخرى فى بيتنا.. تحزن الكتبُ وتبكى غبارا إن هى أُهملت. وأعترف أنى قد جئتُ إلى «ملحمة الحرافيش» متأخرة.
أخرتنى عن قراءة «الحرافيش» جمهرة الروايات المحفوظية التى كنتُ أحسبها أولى بالاهتمام: «الثلاثية» ببُنيانها الشامخ وشخوصها الأيقونية، «الثلاثية» حائطُ الصد الذى قد يتعثر أمامه القادم المتسرع الملول الذى تجاوز فى قراءاته الرواية الواقعية، وظن مغترا أنها رواية محض واقعية. ثم قرأتُ «أولاد حارتنا».. «الرواية المحرمة» جلابة الصخب وذريعة السِكين.. وبعدها قرأتُ «اللص والكلاب» بعد مشاهدة الفيلم، لكى أفهم كادرات كمال الشيخ السينمائية المكتنزة بمعانٍ قد لا يفك شفرتها سوى من قرأ الرواية. قرأتُ وقرأتُ للأديب النجيب، متوخية تسلسل الإصدارات الزمنى، ومع كل رواية كنتُ أكتشف قطعة من المنجز الفاخر حتى حانت لحظة «ملحمة الحرافيش».
• • •
التقطتُ الرواية إذن، وتناهت إلى أذنى الضحكةُ العليمة من وراء الغيب. مسحتُ عن الكتاب غبار السنين. ثم جلستُ أقرأ... كم من الوقتِ جلستُ أقرأ؟ لا أذكر إلا أنى لم أنم من ليلتى تلك لحظة حتى ختمتُ الرواية، حين خرج الشيخ من خلوته ليهَبَ لكل رجلٍ نبوتا من الخيزران وثمرة من التوت «تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة». أهدتنى الرواية ليلة بيضاء لا أرق فيها ولا تسهيد، بل متعةٌ خالصة وسفرٌ فى المكان والزمان إلى حيثما التقطير الصافى لرحيق الحكمة الأبدية.
كانت القراءة الأولى منبهرة الأنفاس، يحيط خلالها بياضُ الليلة وسكونها بسحر الحكايات المتلاحقة لسلالة عاشور الناجى فى بهائها وتعاستها. كان التلقى الأولُ مغلفا بذلك البياض الغائم الذى تبزغ فوقه السطور المكتوبة فترسم الكلمات وتَهدى إلى المعنى. بياضٌ ثَمِلُ بنداوة المعرفة الأولى، تطل عبره وجوه الشخصيات تباعا وتنطفئ، ويقودنى وسط نسيمه الرطيب فضولٌ دَفَعَ النعاسَ عن عينى لأصغى بكل جوارحى إلى طلاوة الحكى الشهرزادى حتى إدراك الفجر. وكانت شهرزادى راويا عليما يُحسن إنشاد غنائية الحارة الكونية على الربابة، تصاحبه أصواتٌ قديرة جسدت أبطال الرواية، وجوقةٌ صوفيةٌ تنشد بالفارسية فى لحظات الوجد ومواقف المناجاة!
***
ما إن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، كنتُ قد فرغتُ من القراءة الأولى. فجلستُ إلى مفكرتى أكتب: «الحرافيش» لوحاتٌ أشبه بمنمنمات «بهزاد» الفارسية. فيها من عِـبر الأجيال وعجائب المصائر ما يُقر فى القلب فضيلة الشجاعة، وفى العقل فضيلة الحكمة، وفى الحس فضيلة الاعتدال. يتواصل البحث فيها عن حلم العدالة، منتهيا إلى أنها كامنة فى حكم الشعب بواسطة الشعب. ولعلها الرواية المتممة لـ«أولاد حارتنا». فهذه الأناشيد الفارسية المنبعثة فى جنباتها من التكية هى استرجاع منغم لتلك النقوش الفارسية على السجادة فى البيت الكبير. وفى تقسيم الرواية إلى عشرة فصول ما يُذكر بشروط الوقف العشرة، وكأننا بصدد استعارة تمثيلية ضخمة للوصايا العشر. لكن ميزة «الحرافيش» الكبرى هى تلك اللغة البلورية المكثفة التى اهتدى إليها محفوظ فى لحظة من لحظات احتداد البصيرة. لغةٌ ملحمية النبرات، تضيق فيها العبارة إفساحا لاتساع الرؤية، ويُعتمد فيها التخييل والتجسيم دعامة للسرد، ويسودها التناسق الفنى الدقيق، كأنه موزون بميزان. نعم، هى روح الشعر ولُبابُه كما وُصفت، لكنها فى باطن الأمر استلهام لجماليات التصوير الفنى فى القرآن الكريم.
لغويا، الفرق بين «أولاد حارتنا» و«الحرافيش» فى تعاملهما مع النص المقدس هو الفرق بين التعالق مع النص واستلهام روح النص.
لعلى أضيف اليوم إلى تلك الفقرة أن «الحرافيش» ليست الرواية «المتممة» لـ«أولاد حارتنا» بقدر ما هى استدراكٌ لغوى وفنى لها. فبعد فارق زمنى يتعدى عقدين من الزمان، كان نجيب محفوظ أكثر فطنة لقدرات المجاز وحدوده ومحدوديته لدى المتلقى العربى، كما كان أكثر حنكة فى اللعب بأدواته اللغوية والسردية بمثل ما أتقن عاشور الناجى اللعب بعصاه العجراء. ليس فى ذلك بالضرورة إذعانٌ لرقيب داخلى، بل هو إطلاق لكامل طاقاته الإبداعية لإصابة الأثر الذى يريد أن يبلغه من نفس القارئ.
• • •
ثم جلستُ بعد إشراق الشمس أرسم شجرة عائلة عاشور الناجى وأتأمل الأسماء والمصائر. فرسمتُ هذا المخطط الذى أعود إليه اليوم:

لا يختار محفوظ أسماءه بصورة عشوائية، فدائما ما يكون وراء الاختيار باعث موضوعى مضمر.
ــ عفرة: لا يشير اسمه فحسب إلى التراب الذى خلق منه آدم شبيه عاشور، لكن اسمه يذكرنا بـ«عرفة» فى «أولاد حارتنا». والحقيقة أن الشخصيتين على طرفى النقيض. إذ يجسد «عرفة»، الموصوف مرارا بأنه «حاد البصر»، المعرفة العقلية الخالصة، وينتهى علمه كأداة رخيصة فى يد السلطة الغاشمة لاستذلال أهل الحارة. وعلى النقيض، يجسد الشيخ «عفرة» الكفيف فكرة إحلال البصيرة محل البصر. فـ«مولاى يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطنى». لذا سيسعى «عفرة» إلى تنشئة عاشور استنادا إلى قيم تناقض تلك التى أدت إلى سقوط «عرفة»، ناصحا الصبى مرارا: «لتكن قوتك فى خدمة الناس لا فى خدمة الشيطان». فما أشد التنائى بين «عرفة» و«عفرة»، ولعله سر الجناس المبثوث بين اسميهما.
ــ عاشور: لغويا يشير الاسم إلى اليوم العاشر من شهر محرم. وفى اختياره ترداد خافت لاستعارة الوصايا العشر، ووحدة عضوية مع عدد حكايات الرواية العشر. فعاشور هو مؤصل العدل فى الحارة، الساهر طوال الليل الساجى وحتى مطلع الفجر، حتى «بات صديقا للنجوم وللفجر». هو قمر الملحمة الذى يشع فى سمائها ملهما الحرافيش حتى بعد أفوله.
ــ شمس الدين: خليفة القمر لا بد وأن يكون شمسا. وكل محاولة لإعادة الاسم فى ظل تردى الحارة ستبوء بالفشل ولن تُستعاد سيرته النزيهة.
ــ سليمان: يختار محفوظ اسم نبى جمع بين الملك والثروة لتجسيد شخصية الفتوة الذى قرر إتمام زواج السلطة ورأس المال.
ــ بكر وخضر: كلاهما ينتهى اسمه بحرف الراء، والراء هى نهاية اسم «عاشور» صوتيا، وقد استخدمها محفوظ رمزيا للإشارة إلى نهاية عهد عاشور. وقد بدأت نهاية عهد عاشور على أيدى بكر وخضر لتفضيلهما التجارة على الفتونة. وقد لاحظت أن حرف الراء لا يظهر فى الذرية إلا لتوكيد نهاية عاشور. (رمانة، قرة، رضوان وزهيرة). كما لا تعود سيرة الناجى عبر الرجال ممن انتهت أسماؤهم بعلامة التأنيث: سماحة الأول والثانى، قرة، رمانة،..)
ــ وحيد الأعور: اسم لفتوة وحيد العينين ووحيدٌ فى السلالة بمسلكه الشاذ، وهو وحيد مقطوع الذرية.
ــ عزيزة: هى تحوير عربى لاسم إيزيس، زوجة أزوريس، الذى يتآمر ضده أخوه فى الأسطورة المصرية القديمة، والتى تنذر نفسها للعثور عليه وتنشئة ابنه حورس من بعده. وهذه هى تفاصيل قصة عزيزة. ومن سمات رواية «الحرافيش» تضمينها لحكايات الموروث التاريخى والدينى.
ــ جلال صاحب المئذنة: يحمل الرفض والإنكار فى حروف اسمه الذى يتضمن «لا» فى منتصف «جلال». فقد رفض الموت مجسدا فى مقتل أمه ورحيل حبيبته. كما أن المد بالألف فى «جلال» يزيد من إحساس التعالى والاحتقار الذى يكنه للحرافيش، وكأن الرجل يحمل مئذنته بين حروف اسمه! جلال يموت فى ريعان الشباب وهو الذى طمح لتحدى الإرادة الإلهية وطلب الخلود كفرا بالقدر واستعانة بالسحر، أما أبوه «عبدربه» فيعيش حتى يناهز المائة وكأن اسمه يفيد توبته وعبوديته لله واهب الأعمار ومقدر الأقدار.
ــ شمس الدين الثانى: بدلا من أن يكون مثل سميه شمس الدين بن عاشور فى وفائه لأبيه فهو على النقيض يقتل أباه وكأنه أوديب الحرافيش.
ــ كذلك سماحة الثانى (الفتوة القبيح) هو نقيض سماحة الأول (المطارد) الذى انتهى نهاية أشبه بالأولياء فى جوار التكية والأناشيد. ما يعنى أن تكرار الأسماء لا يعنى بالضرورة تكرار المصائر.
ــ فتح الباب: هو من فتح الباب لانتفاضة الحرافيش، وبعث سيرة الناجى فى الخفاء.
ــ عاشور الحفيد: تكرار الاسم بعد عدة أجيال وكأن الدائرة تدور على اكتمالها لتجديد عهد العدالة، وكأن الربيع يعود مجددا، وكأن الذكرى التى يحملها الاسم تشهد بعثا جديدا واستكمالا لنواقص عهد عاشور الأول.
• • •
تلك كانت خواطر القراءة الأولى، وتلتها قراءات وقراءات. كانت ليلة بيضاء أدرك شهرزاد فيها الصباح لكنها لم تصمت عن الكلام المباح.
داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات