وما الدنيا إلا «شطرنج» كبير! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 27 أبريل 2025 2:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

وما الدنيا إلا «شطرنج» كبير!

نشر فى : السبت 26 أبريل 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 26 أبريل 2025 - 7:30 م

أحب فن النوفيلا أو الرواية القصيرة، وأستمتع كثيرا بقراءة درره الفريدة، إذ يجمع بين عمق فن الرواية، وتكثيف وقوة تأثير فن القصة القصيرة.
أحب الكاتب النمساوى العظيم شتيفان تسفايج، وأعتبره من أهم وأبرز كتاب الرواية والسير فى القرن العشرين، وربما كان يستحق حياة أفضل وأطول، بدلا من انتحاره هو وزوجته فى العام 1942، ولكنه أهدانا، مع ذلك، روايات قصيرة مذهلة فى تحليلها النفسى، وسيرا شهيرة كتبها عن شخصيات كبرى مثل نابليون وتالستوى وبلزاك وديستويفسكى، كما سجل ذكرياته فى كتاب بعنوان «عالم الأمس».
تُرجمت الكثير من أعمال تسفايج إلى العربية، ومنها نوفيلا «الشطرنج»، أشهر رواياته القصيرة، والتى نشرت بعد انتحاره بشهور قليلة، وكانت ترجمتها دوما عبر لغة وسيطة هى الفرنسية غالبا، ولكن المترجم البارع سمير جريس اختار أن يترجم «الشطرنج» لأول مرة عن لغتها الأصلية الألمانية، وصدر الكتاب عن دار الكرمة، فحقق لى بذلك متعة ثلاثية: نوفيلا عظيمة، لكاتبى المفضل، وبترجمة رائقة لمترجم قدير.
تستحق هذه النوفيلا صيتها، ليس فقط لتماسك بنائها، وتمثيلها النموذجى لفن الرواية القصيرة؛ حيث الحدث الواحد الذى لا يتفرع، ومع ذلك يتم تعميقه، أى إنه ينمو ويضاف إليه ويتضخم، ولكن أيضا لتعدد دلالات الرواية، وبراعتها فى التحليل النفسى لشخصياتها، برغم ما قد تبدو عليه من بساطة خادعة.
حكاية تسفايج تجرى على متن سفينة تقلّ بطل العالم الخارق فى الشطرنج ميركو تشينتوفيتش، الذى يسافر من نيويورك إلى الأرجنتين للمشاركة فى بطولة كبرى، ولكن السارد (لعله تسفايج نفسه لأنه نمساوى مثله ولأنه مولع كذلك بالتحليل النفسى للبشر)، تأسره شخصية ميركو العجيبة، ويحلم بمحادثته ومعرفته، ثم يستدرجه مع آخرين إلى مباراة جماعية فى الشطرنج.
يوافق ميركو الذى يقدس المال، وهنا تتطور الحكاية البسيطة إلى صراع معقد، ويتحوّل اتجاه السرد كله إلى شخصية أكثر غرابة من ميركو هو «السيد ب»، الرجل النمساوى أيضا، والذى يظهر مهارة فى دعم منافسى ميركو، مما يستدعى استدراج «ب» إلى مواجهة ميركو فى مباراة شطرنج فردية.
لو فكّكت بناء النوفيلا بعيدا عن السارد، وبعيدا عن شخصية رجل أعمال سيمّول مباريات الشطرنج على السفينة، بدافع عدم الرغبة فى الهزيمة، ستجد أن رواية «الشطرنج» عن ميركو و«السيد ب»، وعن لعبة الشطرنج نفسها، وعن الهوس بفكرة أو بموضوع محدد.
وبينما يمثّل ميركو القوة المقلّدة الغبية، والتى لا تمتلك أى قدرة اجتماعية أو تعليمية أو عاطفية بعيدا عن الشطرنج، وكأنه آلة مبرمجة، فإن «السيد ب» محام ذكى، اعتقله النازيون لمدة عام، وفى السجن سرق كتابا عن الشطرنج، واستوعب من خلاله خطط اللعب التى ابتكرها عظماء اللعبة، وكان ذلك عبر الخيال وحده، ودون أن يرى رقعة الشطرنج، وهكذا أصابه هوس اللعب الخيالى بالشطرنج، ولذلك وافق على أن يلعب لأول مرة من سنوات بقطع شطرنج حقيقية، لكى يعود إلى الواقع، ثم يعتزل اللعبة نهائيا.
بدا لى أن تأويل الحكاية مفتوح الدلالات: هذه الدنيا كلها تختزل فى رقعة شطرنج بالأبيض والأسود فوق سفينة عائمة، وهذه قوة المنطق المحفوظ الرتيب الهادئ (ميركو)، تواجه رجل الخيال الذى صمد أمام قسوة النازيين، وحربهم النفسية، وفراغهم المدمر لمدة عام كامل (السيد ب).
هذا هوس يواجه هوسا آخر، هوس ميركو بالمال، وهوس السيد بلعبة أنقذته من الموت، هوس محترف أمام جنون أحد كبار الهواة، ولعبة الشطرنج مجاز كبير لصراع الحياة الأبدى، بين التقليدى المنظم، والحرّ الأكثر ذكاء، بين هدوء الغفلة المطمئن، وجنون اليقظة والنشاط العارم.
ورغم أنها لعبة لا أثر للصدفة والحظ فيها، إلا أن حياة ميركو و«السيد ب» لا تخلو من الحظوظ، سواء فى تبنى قس لميركو، ومصادفة ممارسته للعبة الشطرنج، التى تعلمها ذلك الصبى الغبى، أو رؤية «السيد ب» المعتقل لكتاب الشطرنج فى معطف ضابط نازى معلّق على المشجب.
يتأمل تسفايج ببساطة ممتعة الطبيعة الإنسانية، ويبدع فى وصف دوافع شخصياته، وكلام «السيد ب» عن أحواله فى السجن لا نظير له، بصيرة وعمقا من الناحية النفسية، إلا فيما قرأت فى روايات دوستويفسكى العظيم.
هى إذن حكاية عن الإنسان، وعن الدنيا، عبر مجاز الشطرنج، وهى أيضا دراسة نفسية ثاقبة عن الهوس بموضوع أو بفكرة أو بشىء، أى بدلا من أن يمتلك الإنسان فكرة ما، فإن الفكرة هى التى تمتلكه، وتدفعه إلى نشاط زائد، والى صراع بلا ضفاف، إلا لو نجح فى السيطرة عليه بعد جهد مثل «السيد ب».
فى الرواية أيضا ملمح عبثى واضح، فرغم تبجيل لعبة الشطرنج وخططها، إلا أن بطل العالم ميركو عاطل عن الموهبة، ويصفه القس الذى رباه بأنه مثل الحمار، أى غبى تماما لولا مهارة نقل قطع الشطرنج، بعد أن حشد تركيزه فى متابعة عشرات المباريات.
أما «السيد ب» فهو يصاب بالتسمم الشطرنجى من إدمانه اللعب، وتتدهور قواه الذهنية، وينقسم على ذاته عندما يلعب معها، وبينما يوجد فى اللعبة ملك ووزير وجنود وأفيال وقلاع، فإنها كلها معركة وهمية افتراضية، وحرب بدون حرب، أو كما يقول السارد واصفا الشطرنج بأنه: «تفكير لا يقود إلى شىء، وعلم رياضى لا يحسب شيئا، وفن من دون أعمال فنية، وهندسة معمارية من دون مادة».
لم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة بين عبثية حرب الشطرنج المستمرة، وغباء ميركو البطل، وهوس وجنون «السيد ب»، وبين جنون الحرب العالمية الثانية، التى وُلدت من قلب الهوس وجنون العظمة، وأشعلها أغبياء، دمروا أوروبا، فانتحر تسفايج العظيم اكتئابا ويأسا.
هذه رواية عظيمة شكلا ومضمونا، وتأويلا ودلالة، حكاية ضد الهوس والغباء، بقدر ما هى مع الإنسان الرمادى المعقد الذى يتجاوز اللونين الأبيض والأسود فى رقعة الشطرنج.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات