(1)
لماذا من بين جوقة كتّاب أمريكا اللاتينية، وكلهم كبار، وكلهم فى الصف الأول من كتاب الأدب والرواية بالأخص، حظى ماريو بارغاس يوسا (1936-2025) بهذه المكانة الرفيعة وهذه الشهرة الواسعة (بعد صديقه اللدود الكاتب الكولومبى الأشهر جارثيا ماركيز) فى العالم العربى؟
شغلنى هذا السؤال كثيرًا، وحاولت أن أقترب من طرح إجابة مقنعة ومنطقية على الأقل فى حدود تجربة قراءة «يوسا» ضمن أعمال جوقة كتاب رواية الواقعية السحرية التى ملأت الدنيا وشغلت الناس؛ منذ النصف الثانى من القرن العشرين وحتى وقتنا هذا (وإن انحسرت هذه الموجة وهذا الاهتمام فى العقدين الأخيرين بشكل ملحوظ).
أفترض أن يوسا من بين كل كتاب أمريكا اللاتينية كان الأقرب إلى ذائقة القارئ العربى، من حيث التركيز على عنصرين أراهما الأهم بين العناصر الأخرى فى أدب يوسا وأدب كتاب الواقعية السحرية عموما؛ وهما «الإمتاع» والقدرة الفذة على الاستحواذ على انتباه القارئ وإشعال فضوله وتحفيز شغفه القرائى وربما يعود هذا العنصر بجذوره إلى استلهام يوسا لروح ألف ليلة وليلة واتصاله الأكيد بروائع القصص فى التراث العربى.
أما العنصر الثانى؛ فهو تماثل الهم الاجتماعى والسياسى، والاقتراب المدهش بين ظروف العالم العربى وتحولاته وتطوره منذ نهايات القرن الثامن عشر، وحتى نهاية القرن العشرين، وبين ظروف دول أمريكا اللاتينية، وتحولاتها الاقتصادية والسياسية وسياقها الاجتماعى والثقافى.
(2)
لعل هذه الخاصية أو هذه السمة -فيما أفترض- التى جعلت يوسا ومن يشبهه قريبا جدًا من الذائقة العربية، وجعلت أعماله فى الصدارة من الإقبال عليها والاستجابة لها؛ هى التى رصدها المرحوم حامد أبو أحمد (أحد الذين اهتموا بأدب يوسا ورواياته وترجم بعضا منها)؛ فى دراسته عن «أدب الواقع والتجريب عند يوسا»؛ فيقول: ظهر ماريو بارجاس يوسا، بموهبته الفذة، فى بلد، مثل بلادنا، يشغل فيه الأدب جانبا هامشيا، ويكاد يكون مجرد تزجية لوقت الفراغ. ويعود ذلك لأسبابٍ كثيرة، من بينها الأزمات الاقتصادية الطاحنة، والحكومات الدكتاتورية، والفروق الطبقية الهائلة، والتخلف، والمظالم الاجتماعية، وغير ذلك من أسباب تحول بين الأدب وبين أن يصبح عاملًا مهما من عوامل التوعية الجماهيرية.
ومن خبرة ماريو بارغاس يوسا بالحياة فى أمريكا اللاتينية، وتمرسه فيها، رأى كيف يكون الظلم فى هذه البلاد هو القانون، والجهالة هى الفردوس ففى أى مكان من هذه القارة المترامية الأطراف نجد الاستغلال، والفروق الطبقية الشنيعة، والبؤس، والتخلف الاقتصادى والثقافى والتردى الأخلاقى.
ويرى ماريو بارغاس يوسا أن بلاد العالم الثالث؛ بما فيها أمريكا اللاتينية، تعانى من حالة فساد جماعى، فالكل مدانون، والكل مشتركون فى هذا الفساد إما بالفعل وإما بالتواطؤ، وإما بالصمت واللا مبالاة. فالواقع إذن فى غاية السوء، لكن الحياة يجب أن تؤول إلى الأحسن والأفضل، والكاتب والأدب والروائى بالأخص مدعو من خلال إبداعه الروائى وسرده القصصي، وباستخدام كل الوسائل الجمالية من توظيف تقنيات الكتابة؛ التداعى والمشاهد المتخيلة، والمجازات، والرؤى والكوابيس والأحلام.. إلخ، لتحفيز الوعى بهذا الواقع، وإدراك مشكلاته وآثاره، ومن ثم السعى إلى معالجتها وإصلاحها، والانتقال إلى الأفضل.
(3)
ولمواجهة هذا الواقع الأليم «أدبيا» و«جماليا»؛ يستشهد حامد أبو أحمد بمقال لـ «يوسا» نشر عام 1967 بمجلة «العالم الجديد» تحت عنوان «الأدب نار»، يقول يوسا: «فأمام هذا الواقع يجد الكاتب أنه مطالب بشحذ أسلحته الدلالية والجمالية، حتى ولو اضطر للدخول فى معركة غير متكافئة ضد طواحين الهواء، وخرج منها مدحورًا كاسر البال، أو تعرض لحرق كتبه فى احتفال رسمى!».
يستنتج حامد أبو أحمد أن ماريو بارغاس يوسا، وكبار كتاب أمريكا اللاتينية، فى النصف الثانى من القرن العشرين، قد رأوا أنه لا يمكن نقل الواقع على الورق بطريقة سطحية تسجيلية، وإنما لا بد من تحويله إلى مادة شعرية. كانوا جميعا على قناعة بأن «أجود القصص هو ما يكون تعبيرًا شعريا عن الواقع».
ولعل هذا هو الفرق الكبير بين «الواقعية القديمة» و«الواقعية الجديدة (السحرية)». ولهذا يرى يوسا أن التجارب التى عاشها الكاتب واستوعبها يجب أن تدخل بوتقة الأسلوب، كى تحمل أقنعة جديدة وتصهر وتتحول، وتخرج بالتالى على نحو آخر يمكن وصفه بالشاعرية. وإذا لم يتم التعامل على هذا النحو مع الواقع، فإن هذه التجارب يكون محكومًا عليها بالتجمد أو النزق، وبذلك تفقد خاصيتها الحقيقية.
وهذا الأمر يتسق تمامًا مع مفهوم يوسا للرواية التى يرى أنها ذلك الكائن الاحتوائى القادر على استيعاب كل الأجناس الأدبية الأخرى، فكما أن السينما هى الفن السابع للفنون، الرواية كذلك فى الأدب، تحتوى الأشواق الشعرية، الحوارات والتقريرية، القصة، اللغة، حتى الفلسفات الكبرى أصبحت توجد ضمن سياق روائى أكبر، فى الرواية تستطيع أن تعبِّر عن رؤيتك للعالم، عن الهموم الكبرى، عن المسائل الوجودية المهمة، الزمن، الموت، الحياة، «أنا مع أهمية هذا التعبير الإنسانى الخاص والشامل فى نفسى الآن»، هكذا يختتم يوسا مقاله بخير تعبير يلخص تجربته الإنسانية والإبداعية؛ وهى التى ستبقى بعده طويلًا.