شكرًا لترامب.. لعلنا استيقظنا! - يوسف الحسن - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شكرًا لترامب.. لعلنا استيقظنا!

نشر فى : الثلاثاء 26 ديسمبر 2017 - 10:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 ديسمبر 2017 - 10:25 م
يبدو أن مصير القدس المحتلة قد فاجأنا، ساسة ونخبا وشعوبا، ووضَعَنا أمام أنفسنا وقدراتنا ومسئولياتنا، وجعلنا نكتشف أننا ثرثرنا عن القدس فى مجالسنا وخطبنا وأغانينا من غير فعل، «وأشبعنا العدو شتما وفاز بالإبل»، تركنا القدس وغير القدس تُستباح كل يوم، وسكتنا عن نزيفها الذى لم يتوقف منذ سبعين عاما حتى الآن.

ابتعدنا عنها تحت ذرائع وتبريرات، تعفينا من تحمل مسئوليتها، واكتفينا بالدعوات الصالحات لها. وكبّر «جهاديون» من أصحاب «إسلام الفسطاطين» فى كابول وسوريا والعراق وليبيا واليمن وسيناء وفى عشرات من مدن العالم.. وأطلقوا اسم القدس على فيالق وكتائب، لكنها «لا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقت»، ولا حتى زقاقا حررت فى القدس المحتلة أو فى غيرها من مدن مغتصبة، كرمها الله وباركها بأنبيائه ورسله، وروتها دماء شهداء وأبطال دافعوا عنها وحرروها مرات ومرات فى كل العصور.

الشكر إلى سيد البيت الأبيض دونالد ترامب الذى أعادنا إلى القدس من عطلتنا الطويلة ومن لا مبالاتنا، وربما (أقول ربما) يساعدنا على إنهاء بطالة عربية، إسلامية ومسيحية، لكن من المؤكد أنه وضعنا أمام أعسر الاختبارات، وفى أزمنة أُنهكت فيها عناصر القوة والمناعة فى الجسم العربى بفعل الثمرة المرة التى أثمرها ما سمى بالربيع العربى، وفشل سياسات وهشاشة ورعونة نظم. ورهانات عبثية على سلام وهمى مع محتل متغطرس ومتوحش.

***

إن القرار الأمريكى باعتبار القدس (الكبرى) عاصمة لإسرائيل ليس مجرد جرة قلم فى إمضاء، ولا هو قرار فردى لرجل بدون ثقافة سياسية وتاريخية، أو لمجموعة أفراد تحيط بالرئيس، إنه قرار تيار قوى ونافذ وثرى ومنظم، عماده حركة شبكة واسعة من المسيحية الإنجيلية الصهيونية (كما تسمى نفسها، وتعدادها يتجاوز سبعين مليونا)، والجماعة اليهودية المنظمة وقادة من رجال الأعمال الأثرياء والمراكز البحثية والإعلامية اليمينية المتطرفة. إضافة إلى كونجرس، لديه فى مخيلته «هوسا» بالقدس يصل إلى درجة «مرَضَية» ومبنية على تأويلات ونبوءات توراتية زائفة، وعلى حلم «أورشليم» الخرافى، وبناء الهيكل «المعبد الثالث» فى موقع الحرم القدسى وتجميع يهود العالم فى «أرض الميعاد» تمهيدا للعودة الثانية للمسيح، وفقا لهذا التأويل (وهو موضوع أطروحتى فى الدكتوراه) والذى تعارضه النصرانية الحقة، وبخاصة الفاتيكان، وهو المرجعية الأكبر للديانة النصرانية، وموقفه واضح وضد الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس منذ أكثر من سبعين عاما وحتى الآن.

ولا شك أن ظروفا عربية سلبية مستجدة، وتصدعا عربيا شاملا، وعجزا وترهلا وانقساما وتآكلا فى جسم السلطة والنخب والفصائل الفلسطينية، فضلا عن خيارات سياسية عقيمة حولت «التفاوض» إلى لعبة عبثية، وتعاملت مع قضية القدس بكثير من الجهل والتجاهل، وكلها عوامل أسهمت فى تهيئة بيئة مواتية لإعلان القرار الأمريكى الذى يشرعن الاحتلال ويرفع من منسوب غطرسة إسرائيل وتوحشها واستيطانها، وينتهك القانون الدولى وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، والمقلق والمحرج لكل حلفاء وشركاء أمريكا من عرب وغير عرب، فى مرحلة شائكة ومركبة فى نزاعاتها، والفاعلين فيها، وتغير فى خرائط التحالفات، وموازين القوة ومعادلاتها.

***

منذ اتفاقات أوسلو كان الهدف الأمريكى ــ الإسرائيلى واضحا، «قليل من الأرض دون سيادة ــ إدارة ذاتية مقابل الاستسلام»/ تقديم رواية إسرائيلية استشراقية تقلل من شأن القدس، فى التاريخ العربى والإسلامى وفى الوعى السياسى العربى / إسقاط القدس الغربية من الخطاب الدولى والفلسطينى والعربى الرسميين، رغم أن دول العالم لا تعترف رسميا وقانونيا باحتلال إسرائيل للقدس الغربية، ولا باحتلالها للقدس الشرقية، وما زال العالم يعتمد قرار تقسيم فلسطين رقم 181 عام 1947، بما فيه من تدويل للقدس، شرقيّها وغربيّها، ولا يوجد فى القدس الغربية إلا سفارتا كوستاريكا وسلفادور / تداول مصطلح القدس الشريف (وهو مصطلح عثمانى، يدل على الحرم القدسى، بما فيه من صحن قبة الصخرة والمسجد الأقصى المسقوف، وأروقة ومحاريب وقناطر، بمساحة لا تزيد على كيلومتر مربع واحد) كعاصمة لدولة فلسطينية / تغيير اسم الجدار الغربى للحرم من حائط البراق إلى حائط المبكى واعتباره ملكا لإسرائيل وتحت سيادتها / تجاهل كل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصِّلة بالقدس والقضية الفلسطينية، واعتبار أن المرجعية الوحيدة هى ما يتفق عليه فى المفاوضات/ عزل القدس الكبرى عن الضفة الغربية بالاستيطان فيها وحولها وبالجدار العنصرى العازل والحواجز العسكرية وبناء الجسور والأنفاق والطرق الالتفافية المخصصة للمستوطنين وإنهاء وجود السلطة الفلسطينية فيها.

ظلت القدس فى الخطاب الإسرائيلى هى القدس الكبرى الموحدة التى تصل مساحتها إلى أكثر من خمسة عشر فى المائة من مساحة الضفة الغربية وهى العاصمة الأبدية، ولا يتحدث هذا الخطاب عن مواقع يهودية مقدسة إلا نادرا، لكن إسرائيل أحاطتها بالمحرمات والقداسة التى لا يجوز الاقتراب منها، وبالاستيلاء والمصادرة والعزل والطرد والتهويد والقضم والإحلال. فرضت الأمر الواقع، وحولت مصير القدس الكبرى من مدينة محتلة ووطن معنوى ومادى ودينى وحقوق وطنية تاريخية لمسلمين ومسيحيين إلى أرض صغيرة (كيلومتر مربع واحد) متنازع على إدارة الأماكن المقدسة فيها، أُسقطت القدس الغربية من التداول السياسى المتعلق بالكيان الدولى الخاص بالقدس، شُرّد أهلها من مسلمين ومسيحيين واستولت إسرائيل على أملاكهم وكانت تقطنها النخبة الفلسطينية الثرية، وعددها وقتذاك كان نحو ثلاثين ألف شخص، وتشكل مساحتها نحو خمسة وثمانين فى المائة من مساحة بلدية القدس. وبنت إسرائيل فيها الكنيست ودوائر حكومية عدة لكن العالم حتى اليوم لا يعترف بسيادة إسرائيل عليها.

***

فى عام 1989 وقعت إسرائيل مع الحكومة الأمريكية اتفاقية تؤجر فيها أرضا فى القدس الغربية المحتلة مساحتها واحد وثلاثون دونما لتكون سفارة أمريكية، وبإيجار دولار سنويا، ولمدة تسع وتسعين عاما، ويملك هذه الأرض ومسجلة ملكيتها بأسماء تسع عشرة عائلة مسلمة ومسيحية مقدسية، ويحمل ورثة هذه العائلات جنسيات أمريكية وكندية وأوروبية.
وفى عام 1995 سن الكونجرس قانونا يلزم الإدارة الأمريكية بنقل سفارتها من تل أبيب إلى ما أسماه القدس الموحدة، وقد نص القانون على أن يتم نقل السفارة بموعد أقصاه 31 مايو 1999، وفى حال عدم نقل السفارة فى هذا الموعد فإن الكونجرس قرر معاقبة وزارة الخارجية الأمريكية على تقصيرها بخفض نصف موازنتها السنوية المخصصة لسكن بعثاتها الدبلوماسية. لكن تحت ضغط وزارة الخارجية فى ذلك الوقت، أضيف إلى هذا القانون نص يخوِّل الرئيس تعليق العقوبة لفترات طوالها ستة أشهر إذا استدعت المصلحة الأمريكية ذلك. وقد اكتفى الرؤساء فيما بعد بممارسة حق تعليق العقوبات حتى جاء ترامب واتخذ قراره الفج والخطير.

إن الكونجرس هو المؤسسة البرلمانية الوحيدة فى العالم، التى تؤيد القدس الكبرى كعاصمة لإسرائيل، والمؤسسة الوحيدة التى احتفلت بمرور ثلاثة آلاف عام على قيام «مدينة داوود/ أورشليم دى سى»، والوحيدة التى تقوم بمعاقبة دولتها لمصلحة دولة أخرى.

ما العمل؟ هناك الكثير الذى يمكن التفكير فيه لكن بعقلية مغايرة، بعيدة عن الشعارات والمصالح الخاصة وتعمل على تغيير الواقع السياسى، وتراهن على شعبها البطل المتصالح مع نفسه وقضيته، وتقتنع بأن إقامة سلام مع غاصب متغطرس واحتلال غير مكلف له، هو خيار عبثى وقبض على هواء كثير.

 

يوسف الحسن  مفكر عربي من الإمارات
التعليقات