الشتات السورى بين القديم والجديد - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشتات السورى بين القديم والجديد

نشر فى : الأربعاء 26 ديسمبر 2018 - 10:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 26 ديسمبر 2018 - 10:02 م

نشرت مبادرة الإصلاح العربى تقريرا للباحثة «بسمة قضمانى» يتناول رسم صورة شاملة للسوريين الذين حُرِموا من وطنهم، سواء كانوا من المهاجرين القُدامى أو اللاجئين الجدد. ويصف التقرير السمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمجتمعات الشّتات القديمة ويصوّر عملية الانتقال السريع للاجئين الجدد والتفاوت فى عمليّة تحوّلهم إلى جزء من الشتات السورى.
أسفرت ثمانى سنوات من الصراع الشرس فى سوريا عن حركة نزوح قسرى شملت أكثر من نصف السكّان، نزح بعضهم داخل البلاد، بينما فرّ أكثر من ستة ملايين آخرين خارجها، الأمر الذى تسبّب فى أخطر أزمة لاجئين عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. بيد أنه لم يُكتَب سوى القليل عن نحو 18 مليون سورى يعيشون فى الخارج منذ سنوات، بل ربما منذ عقود. لقد هاجر هؤلاء فى موجات مُتعاقبة واستقروا فى حوالى 30 دولة مختلفة حول العالم، بما فيها تلك الواقعة فى أبعد المناطق فى أمريكا الجنوبية وجزر الكاريبى. وإذا أضفنا هؤلاء إلى أولئك الذين فرّوا نتيجة الصراع؛ لبلغ عدد السوريين الموجودين خارج البلاد الآن ثلاثة أضعاف الذين يعيشون فى الداخل.
غالبا ما يوجد تناقض بين قصص المعاناة والبؤس التى يعيشها اللاجئون عموما وقصص النجاح المُلهِمة لاندماج المهاجرين وعائلاتهم فى مجتمعاتهم المُضِيفة. ولا يشذّ الشتات السورى عن هذه القاعدة، حيث تتناقض قصة نجاح المهاجرين السوريين الأوائل مع الوضع المُزرى للفارّين اليائسين واللاجئين العاجزين. ويتمتّع الشتات السورى بشكل عامّ بالاكتفاء الذاتى من الناحية الاقتصادية، ويتألّف من مجتمعات مُندمِجة جيّدا تنتشر عبر الأمريكيتين وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا.

الاقتصاد السياسى لمجتمعات الشتات

من الواضح أن اللاجئ الجديد يختلف عن المُهاجِر المُستقِرّ على مستوى وضعه القانونى فى المقام الأوّل، فغالبا ما يحمل أفراد الشتات السورى جنسية البلد الذى يقيمون فيه، فى حين أن اللاجئ هو مقيم مؤقّت ومُسجَّل على هذا النحو من قبل المُنظَّمات الدولية الموجودة فى البلدان المُضيفة أو حكومات البلدان المُضيفة نفسها. على أن هذا المعيار مُنفردا لا يكفى إذا ما أُخِذ بمفرده، حيث إن العديد من المُقيمين الأجانب فى بلد معين قد نجحوا فى الاندماج فى المجتمع المُضِيف بعد عدد من السنوات دون اكتساب الجنسية بالضرورة.
مع الاندماج يأتى الخوف من فقدان الروابط مع البلد الأمّ، رغم أن جميع الأبحاث الحالية حول مجتمعات الشتات تدلّ على أن اندماج أعضاء الشتات فى اقتصادات البلدان المُضِيفة لا يُخفّض علاقاتهم وحجم مساهمتهم فى اقتصاد وطنهم الأم، بل يُغيّر من طبيعتها. وتتطوّر المُساهَمات من التحويلات الصغيرة إلى أعضاء الأسرة الصغيرة إلى الاستثمارات المُباشِرة والشراكات والمشروعات المُشترَكة وغيرها من المُساهَمات الأكثر تطوّرا، بما فى ذلك العمل الخيرى المُؤسّسى.

مجتمعات الشتات السورى فى معظم أنحاء العالم

قبل عام 2011 بوقت طويل، كانت سوريا تعانى من مشكلة هجرة الأدمغة التى يمكن وصفها بأنها من بين الأسوأ على المستوى العالمى. ويحافظ معظم السوريين الذين أسّسوا لأنفسهم حياة فى الخارج لسنوات أو عقود مضت على روابط قوية مع سوريا حيث بلغت تدفّقات تحويلات المغتربين إلى سوريا أكثر من 2 مليار دولار، وبينما يبدأ ملايين اللاجئين السوريين بالاستقرار فى أوروبا وفى دول الشرق الأوسط؛ فإنهم يُرسلون بشكل مُتزايد الأموال إلى سوريا. فى عام 2014، بلغت التحويلات المالية من أوروبا وحدها إلى سوريا 84 مليون دولار.
ولعلّ أهمّ اختبار لارتباط مجتمعات الشتات السورى بالوطن الأمّ هو انتفاضة عام 2011، عندما بدأ السوريون فى معظم أنحاء العالم ــ والذين قضوا شطرا من حياتهم خارج بلادهم ــ يهتمّون فجأة بما كان يحدث فى سوريا. وظهر انشقاق مُبكِّر بين المؤيدين للانتفاضة والموالين للنظام. وعلى مدى ثمانى سنوات منذ بدء الصراع، كانت مجتمعات الشتات فى أجزاء مختلفة من العالم تتواصل بعضها مع بعض وكذلك مع السوريين فى الداخل، وشكّلت مصدرا رئيسيا لدعم الوطن.
وتشير التقديرات إلى أنه حتى عام 2013، مثّل دعم الشتات ما يقارب 80% من احتياجات المدنيين النازحين قسرا.

إمكانات الشتات السورى فى المساهمة بمرحلة ما بعد الصراع

كانت مجتمعات الشتات السورى، طوال فترة الصراع فى سوريا، مرنة وقوية. وقد أظهرت رغبتها فى استخدام خبراتها ومعرفتها ومواردها وإمكاناتها لدعم سوريا والسوريين المحتاجين فى معظم بلاد العالم. وكانت هذه المجتمعات تعمل فى أسوأ الظروف، ومن المُرجّح أن تستمرّ فى القيام بذلك، ومن الممكن القول إن الشتات لن ينتظر أن يحدث تغييرا فى هيكل السلطة فى البلاد من أجل مواصلة الأنشطة التى بدأها فى عام 2011. وثمّة حوافز غير مادية للبقاء على اتصال بالوطن وهو ما يُشجّع على الاستثمار فى مرحلة مبكرة فى برامج إعادة الإعمار. أمّا إذا فشلت شروط التسوية السياسية فى إيجاد نظام حكم شرعى ومُستقرّ فسوف يميل المغتربون ــ على الأرجح ــ إلى العمل من خلال المبادرات الخاصّة والمُنظّمات المُجتمعية وصلات القرابة وغيرها من القنوات غير الرسمية كما فعلوا دائما طوال فترة الصراع، ولكن من غير المُحتمَل أن يقلّلوا من دعمهم.
وتشير جميع خصائص الشتات السورى إلى أنّ هذا الشتات قابل لأن يتحوّل إلى لاعب مُؤثّر مع دور قويّ مُحتمل عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار. ويكمن التحدّى الحقيقى فى قدرته على تنظيم نفسه بشكل عابر للحدود الوطنية وإضفاء الطابع المؤسّسى على جهوده.

أشكال مساهمة الشتات وتنظيمه

أضحت مجتمعات الشتات الآن مُعترَفا بها كأطراف فاعلة رئيسية فى تنمية مجتمعاتها، ويتعاظم دورها فى التحليلات المستقبلية والتخطيط لمساعدات إعادة الإعمار والتنمية التى تقدّمها المؤسّسات الدولية. وقد ازدهرت دراسات الشتات على مدى العقدين الماضيين، وتقدِّم هذه الدراسات دليلا حول الدور الحاسم لمساهمات المغتربين فى البلدان الأصلية، تلك المساهمات التى لا تفيد الاقتصادات فحسب؛ بل تُؤثِّر أيضا على الديناميكيات الاجتماعية من خلال تشجيع مجتمعات أكثر انفتاحا وأكثر ارتباطا، مع وجود وعى سياسى أكبر، خاصّة وأنها تستفيد من التقنيات الحديثة والشبكات والأفكار والقيم والأعمال الفنية التى ينقلها الفنانون والمثقفون فى المنفى لمجتمعهم فى المنزل.
ولا شكّ أنّ السوريين سوف يستفيدون من الدراسات التى جرت على مختلف مجتمعات الشتات لاستكشاف أشكال التنظيم المختلفة والنظر فى نماذج للبنى من القطّاع الخيرى فى الشتات على مستوى العالم. وتقدّم الصين المثال الأكثر وضوحا على مساهمة الشتات التى أحدثت تغييرا مذهلا فى الوطن الأم. وقد تمّ ذلك برمّته قبل الشركات الخاصة.
غالبا ما تشكّل مجتمعات المهجر حلقات مانِحة، هى عبارة عن جماعات مُستقِلّة ذاتية التنظيم من الأفراد الذين يجمعون تبرُّعاتهم ويقرّرون بشكل مشترك أيّ المناحى أو البنى يريدون تمويلها. وفى بعض الحالات تستضيف هذه الحلقات منظمة أخرى. وتخلق هذه الحلقات آليات وسيطة ضرورية من أجل تجميع العطاء الفردى وتوسيع دائرة المانحين.

الآفاق والتحديات بالنسبة للشتات السورى

اكتسبت المجتمعات السورية فى الشتات مهارات وخبرات وموارد مكّنتها من النجاح فى البلدان المُضيفة لها. وبات الإحساس بالانتماء الذى لا يقوم على المناطقية فى الأمّة يتأصّل لديها. وأفراد هذه المجتمعات قادرون اليوم على لعب دور مهمّ إذا تمّت الاستفادة من إمكاناتهم وممتلكاتهم لصالح سوريا. وقد انضمّ اللاجئون الوافدون حديثا الذين لديهم فرصة لتطوير مساراتهم الخاصّة إلى مجتمعات الشتات الأقدم، وسوف يُثرون الهويّة السورية فى المهجر.
ولا شكّ أن الترابط بين هذه الجماعات هو فى حدّ ذاته مكمن قوّة، يمكن أن يساعد فى تحويل رأسمال الشتات بمعانيه الأوسع (المالية والبشرية والفكرية) إلى مشروعات عمليّة يمكنها أن تكون بمثابة جسور للمعرفة والدراية والموارد والأسواق. وسوف يفيد هذا الجميع؛ أعضاء الشتات والدول المُضيفة والوطن السورى. ومع اقتراب الصراع فى سوريا من نهايته، تتحوّل احتياجات السوريين داخل البلاد. فالسوريون اليوم يبحثون فى كيفية إعادة بناء أنفسهم ودائرة أسرهم المباشرة وبيئتهم المحليّة، بدلا من مواجهة معاناة العنف وانعدام الأمن. ويدرس اللاجئون الاحتمالات المُتعدّدة لتحديد ما إذا كان بإمكانهم العودة إلى سوريا أو التخطيط للبقاء فترة طويلة فى البلدان المُضيفة..
من المُرجَّح أن معظم السوريين لن يعودوا للعيش فى سوريا، وعلى الرغم من ذلك فإنّ جميع السوريين فى الشتات حريصون على المساهمة عن طريق تقديم المشورة والتوجيه والتدريس والتبرع والقيام بزيارات مؤقّتة لبلدهم بحيث يصدِّرون إليه مرة أخرى المهارات والقيم والمعايير التى اكتسبوها فى دول المهجر التى استضافتهم. ولن تستطيع سوريا النهوض من جديد إلا إذا تمّ تجميع المواهب وتنظيمها بطرق تخدم هذه الاستراتيجية، وعندها ستقوم سوريا الجديدة بمساعدة الجيل الشابّ من السوريين على تحقيق كامل إمكاناتهم، على الرغم من المآسى التى عاشوها، وسوف تتمكّن من أن تبنى مجتمعات ذكية فى مختلف المجالات وأن تحقّق المجتمع العصرى القائم على التكافؤ بين الجنسين والتنوّع كأولويات. وأكثر من أى مصدر آخر للمساعدة، يمكن للشتات أن يضمن الاستمرارية، لأنه فى المقام الأول أقلّ عرضة للإرهاق من الجهات الأجنبية الفاعلة.
والحقّ أن الشتات السورى لديه كلّ الخصائص اللازمة لتنظيم أشكال مُتعدِّدة من القوّة الناعمة ولعب دور القناة من خلال تسهيل تدفّق رأس المال والأفكار والمهارات والناس، والإشارة إلى القنوات التى يمكن من خلالها تقديم الدعم بأكثر الطرق فاعليّة.. إن فهم قوّة موارد الشتات السورى والاستفادة من رأسماله الفكرى والمالى هو وسيلة فعّالة لتعزيز دعم الجهات الفاعلة الأخرى غير السورية الذين يبحثون عن طرق للمساعدة، كالمانحين الدوليين والمؤسسات والوكالات الحكومية.
وفى الوقت الحالى، لا يزال الشتات السورى يعيش طور إدراك حجمه وأهميته، ولكنه لم ينظّم نفسه بعد بشكل واعٍ، ليصبح لاعبا استراتيجيا وشريكا يمكن للمجتمع الدولى أن يساعد سوريا من خلاله على طريقها الطويلة إلى الانتعاش.

النص الأصلي
https://bit.ly/2LAnlWi

التعليقات