«يوسف كمال».. مأزق البطل التراجيدي - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 3:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«يوسف كمال».. مأزق البطل التراجيدي

نشر فى : السبت 27 يناير 2024 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 27 يناير 2024 - 8:10 م
تُقّدم منى الشيمى فى كتابها الجديد الصادر عن دار الشروق بعنوان «يوسف كمال فى رواية أخرى» سردية مركّبة، تعيد قراءة سيرة أحد أكثر شخصيات أسرة محمد على التباسًا، وهو الأمير يوسف كمال، مؤسس مدرسة الفنون الجميلة، والرحّالة صاحب الكتب الكثيرة، والشخصية المحورية فى تاريخ مدينة نجع حمادى فى قلب الصعيد، حيث كان يمتلك فيها آلاف الأفدنة المزروعة بالقصب، وحيث أقام قصوره، وترك وراءه مرويّات عجيبة متوارثة، تتأرجح بين الخيال والواقع.
كان من الممكن أيضًا أن يصبح الأمير يوسف كمال سلطانًا على مصر، وكان يمكن أن يسترد العرش لفرع أحمد رفعت، الذى أزاحه فرع اسماعيل إلى الهامش، ولكن حياة الأمير الشخصية، وصراعات الأسرة العلويّة، جعلا يوسف كمال خارج الصورة، وجعلا حياته على حافة الخطر والصدام.
نحن إذن أمام شخصية درامية بامتياز، يضاف إليها شغف خاص فرضه انتماء المؤلفة إلى مدينة نجع حمادى، وامتلاء ذاكرتها منذ الطفولة بحكايات وأساطير عن الأمير، الذى يجلد الفلاحين بالكرباج، ويلّوث أنوف المشايخ والعُمد بالدقيق، وهم يلتقطون عملاته المعدنية من أطباق الطحين.
كانت الطفلة منى الشيمى تلعب أيضًا فى فرندة قصر الأمير، وتتأمل سبيل الماء الذى أنشأه، وعليه عبارة غامضة مكتوبة.
لنبدأ أولًا من تصنيف الكتاب، الذى يبدو أقرب إلى الدراسة التاريخية بتفاصيل كثيرة للغاية، ربما أكثر مما يجب، كما أن العنوان «يوسف كمال فى رواية أخرى»، يأخذنا إلى معنى «السرد التاريخى»، خاصة أن المؤلفة حشدت فى النهاية عناوين مراجعها، وأثبتت هوامش كثيرة أسفل الصفحات.
ولكنى أنحاز إلى تصنيف النص باعتباره «رواية» أو «حكاية»، لا بل هو حكايتان متداخلتان معا، فمهما كان حجم المادة التاريخية، أو جهد ونية البحث، فإن الكاتبة ليست مؤرخة، ولا تريد أن تكون، هى روائية تحكى التاريخ انطلاقًا من شغف شخصى، والمعوّل فى التصنيف عندى ليس المادة التاريخية، ولا حجمها ومراجعها، ولكن طريقة التشكيل الفنى لها، سواء فيما يتعلق بدور الخيال، أو بإعادة ترتيب الوقائع، أو بطريقة البناء والسرد.
لدينا كما قلت سرديتان: الأولى بطلتها منى الشيمى نفسها، وعنوانها رحلة بحثها عن أشخاص أو آثار أو «مرويّات عن يوسف كمال»، من النمسا إلى وسط القاهرة ومدافنها، وصولًا إلى مدينة نجع حمادى، والسردية الثانية عنوانها «اعترافات يوسف كمال فى المنفى»، قبل أيام من موته فى بداية العام 1967، والحيلة «الفنية الخيالية» هنا أن يتذكر ويخاطب خادمه الوفى النمساوى، أى أننا أمام صوتين متداخلين يحكيان بضمير المتكلم: صوت منى، ابنة مدينة الأمير، وصوت بطلها، الذى بعثه فن الرواية.
منى فى النص لم تعد هى منى الشخصية المعروفة، رغم حضورها بكل تفاصيلها، ولكنها صارت «شخصية فنية»، تخضع لبناء وقانون النص، وكذلك يوسف كمال، فرغم أن التفصيلات لها مراجعها، ولكنها استخدمت بشكلٍ فنى كامل، ولخدمة أفكار سردية هى رسم «بورتريه» لبطل تراجيدى، وتقديم تفسير جديد لسلوك الأمير، وتفكيك حيرة الكاتبة، لاكتشاف وفرز الواقع والأسطورى فى حياة صاحب مدينتها.
هذا بناء روائى كامل يُخضع التاريخ للسرد القصصى، ويعيد ترتيب الوقائع والأحداث، ويراوح بين ماضى المدن (القاهرة ونجع حمادى) وحاضرها، ويزيح الحضور التاريخى الأكثر حيادًا، لصالح الرؤية الذاتية، سواء رؤية منى للأمير، أو رؤية الأمير لذاته، وهو ينتظر الموت.
تبدو صورة الأمير فى النص كشخصية تراجيدية بكل خصائصها، ورثت سوء حظ فرع أحمد رفعت، وتواجه دومًا قدرًا عاتيًا، يبعدها عن العرش، ويجعل محاولاتها فاشلة، فيظل أفراد العائلة يعيشون على الهامش.
يحاول الأمير يوسف كمال استخدام دعم الثقافة والفنون كوسيلة لمواجهة سطوة السلطان فؤاد الذى أصبح ملكا فيما بعد، وكأن الأمير يحارب طواحين الهواء، وكأن الهامش هو القدر والمصير. يُضاف إلى ذلك مشكلة مثليّة يوسف كمال، وفشله مع النساء، وعدم وجود أمل فى أن ينجب طفلًا، رغم زواجه.
فلتكن بهجة المغامرة فى الهند وإفريقيا، وسلطة الفن والثقافة، وعظمة خريجى مدرسة درب الجماميز، مثل مختار، وامتلاك الأراضى الشاسعة، وكتابة اسم الأمير على الموسوعات الجغرافية التى يؤلفها آخرون، وانتهاز فرص الظهور الشحيحة كما فى ثورة 1919، فلتكن تلك الأشياء جميعًا عناوين الحضور، عوضًا عن غياب العرش.
البطل التراجيدى لا يتوقف أبدًا رغم معرفته بمصيره، ولا يتوقف القدر بالمقابل عن توجيه الضربات إليه، وكان آخرها بالنسبة للأمير مصادرة أملاكه بعد 1952، واضطراره للبقاء فى المنفى، وظهور حكايات تشوّه سيرته، مثل قصته العجيبة مع وداد الغازية، والتى صارت أعمالًا سينمائية ومسرحية، بعد أن كتب عنها الصحفى جليل البندارى.
تفتش منى الشيمى فى رحلتها عن الشخصيات، وعن أحوال القاهرة ونجع حمادى، بينما يفتّش يوسف كمال فى مقعد اعترافه الأخير عن حصاد معركته العبثية الخاسرة مع فؤاد، ومع الحياة، ومع نفسه، وينتهى النص إلى «حقيقة ما« لا تغلق باب البحث، ولا توقف أيضًا تدفق مرويات الأجيال وأساطيرهم فى نجع حمادى.
تمنيتُ أن تقل التفاصيل التاريخية كثيرًا، فالأهم عندى هو الإمساك بمفتاح الشخصية والحكاية معًا، الأهم أن نرى يوسف كمال من الداخل كإنسان، وقد تحقق ذلك فى صفحات كثيرة، ولكن الوقائع، وتفاصيل شجرة العائلة، وصراعاتها، كانت تعود بقوة من جديد. «الحذف» كان سيثرى هذه الرواية، وبقاء كتلة صلبة من المادة لم يكن فى صالح فكرة التشكيل، التى أراها جوهر فنية الرواية وتميزها.
ولكن صورة الأمير وعصره ومدنه، والشخصيات المحيطة به تظهر ساطعة فى النهاية، بل إن شخصيات عجيبة مثل الأمير كمال الدين حسين، والأميرة شيوه كار، تبدو جديرة بأن تكون موضوعاتٍ لنصوص سردية مستقلة.
هذه رواية مهمة عن الأمير والعائلة والسلطة والمدينة والوطن، وعن ذاكرة الطفولة التى لا تقنع إلا بأن تكتب عبر سير الآخرين.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات