كانت الهند خلال النصف الأول من القرن العشرين أكثر المناطق جذبًا فى عيون أبناء إمارات الساحل، خاصة فى مجالات التجارة والعلاج. وكانت الكتب والدوريات العربية المختلفة تطبع فى بومباى، وتباع هناك، وتصل هذه المطبوعات برفقة التجار العائدين إلى الإمارات، كما كانت بومباى مركزًا لبيع المجلات والكتب الصادرة فى مصر وبلاد الشام والعراق، مثل مجلات «المصور» و«الفتح» وجريدة «الأهرام» وغيرها.
تعرف تجار وأدباء وزائرون من أبناء الإمارات على أحوال الهند وآدابها وفنونها وثقافاتها، وعاش فيها، على سبيل المثال، أحمد سلطان بن سليم الذى كان مذيعًا فى إذاعة دلهى، وكذلك عاش فيها مبارك بن سيف الناخى، والشاعر سلطان بن على العويس الذى مكث فى الهند أكثر من اثنى عشر عامًا بدءًا من 1945. ومن ناحية أخرى، لم تكن روابط الوصل مقطوعة بين إمارات الساحل وبقية أجزاء الوطن العربى، ولعل الكتاب والمجلة والصحيفة كانت من عوامل الوصل والتفاعل، وقد حرص رجال عديدون من رواد النهضة، ومن كبار التجار على المشاركة فى التفاعل الفكرى والأدبى، مع ما يصدر فى عواصم العرب الثقافية، من كتب ومجلات، وبخاصة فى مصر والعراق وبلاد الشام.
كما حرصوا على تبادل الأفكار مع أدباء ومثقفين ورواد نهضويين حول أوضاع العرب والمسلمين فى تلك الأزمنة، وما تقوم به قوى الاستعمار الأجنبى، من استغلال وهيمنة وتفريق للأمة العربية، ويتضح ذلك من خلال مراسلات لشخصيات إماراتية مع أدباء وعلماء عرب وصحفيين. ومن بين هذه الشخصيات الإماراتية الشيخ سلطان بن سالم القاسمى، ومبارك بن سيف الناخى، وحسن بن عبدالرحمن المدفع، وإبراهيم بن محمد المدفع، وعبدالله بن صالح المطوع، وعلى بن عبدالله العويس، وغيرهم.
ومن الأعلام العرب فى ذلك الوقت، شكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، صاحب مجلة «الفتح» القاهرية. ومن المجلات التى كانت تصل إلى الإمارات، وكان لها دور فى تنمية المشاعر الوطنية، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، مجلة «الشورى» التى كان يحررها الكاتب الفلسطينى محمد على الطاهر، ومجلات «المؤيد» و«اللواء» و«المنار».
فى إبريل عام 2000، قمت بمرافقة أم البنين بزيارة إلى القاهرة بهدف البحث والاطلاع على المجلدات الأصلية للأعداد الصادرة من مجلة «الفتح»، والمحفوظة نسخ منها فى منزل حفيد محب الدين الخطيب، بهدف التعرف على نصوص مراسلات منشورة فى هذه المجلة لأدباء وشخصيات من الإمارات. وكانت وقتها أم البنين تعمل على تأليف كتاب عن الشيخ «سلطان بن سالم القاسمى» الذى حكم إمارة رأس الخيمة فى الفترة من 1919 حتى عام 1948، وقدم نموذجًا لمقاومة السيطرة البريطانية فى زمن كانت فيه اليد العليا للبريطانيين على شتى الصعد السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية، والتى أعاقت تقدم ونماء ووحدة المنطقة، وحركتها المشروعة فى البحار.
تعرفت أثناء زيارتنا لمنزل حفيد محب الدين الخطيب (1886ــ 1969) على قصة هذا المفكر العروبى الإسلامى، والأديب والصحفى الدمشقى الذى عاش فى عدد من المدن العربية، متنقلًا من دمشق إلى القاهرة ومكة وبيروت وإسطنبول وغيرها، وعمل محررًا فى صحف «الأهرام» و«المؤيد» و«مجلة الأزهر»، وجريدة أخرى فى مكة باسم «حكومة الحجاز» التى كان يصدرها الشريف حسين بن على، وغيرها، وكان مناهضًا لسياسة «التتريك» وناشطًا فى مجالات الفكر والأدب، ومال نحو «السلفية» والإسلام الدعوى فى فترة من حياته.
تزودت أم البنين بالكثير من الوثائق، وبخاصة حينما عكفت على مراجعات مطولة للعديد من المجلات المصرية فى دار الوثائق المصرية؛ بحثًا عن مراسلات وردت فيها لشخصيات إماراتية فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات. وكان نصيب صاحبنا من الزيارة أن عثر على سلسلة (14 جزءًا) من أعداد مجلة، أطلقها محب الدين الخطيب فى الثلاثينيات، اسمها «الحديقة»، بحجم كتاب الجيب الشهير، والتى حرص ناشرها على جمع (أدب بارع وحكمة بليغة)، مختارات فى الآداب العربية والإسلامية، أشعارًا وفنونًا ومقالات لكبار أدباء وكتاب زمانه، من أمثال أحمد شوقى، والمازنى، ومصطفى صادق الرافعى، وأحمد زكى باشا، وحافظ إبراهيم، وإسماعيل صبرى باشا، وعبدالعزيز باشا فهمى، وشكيب أرسلان وغيرهم، فضلًا عن مقالات لمستشرقين فرنسيين وإيطاليين.
تزين هذه السلسلة من «الحديقة» مكتبتى، ولولا حجم «الجيب» الصغير لكل جزء، لصلحت أن تكون من «كتب المنضدة»، أتفقدها أحيانًا، وأختار صفحات تستحضر رائحة الذاكرة الشعرية، والحنين إلى الفصول الأولى الأجمل فى حكايات الأدب، وأسئلة الأخلاق والقيم فى ذاك الزمان.
يقرأ صاحبنا صفحة فى الجزء الـ(12) من مجلة «الحديقة» بعنوان «المروءة شيمة الصحراء»: «كان فارس من العرب يجتاز على جواده بادية اشتد فيها القيظ، وتحولت رمالها إلى مثل الجمر، فلقى فى طريقه رجلًا يمشى على قدميه ينْتعل تلك الرمال المحرقة. وبعد أن قطع مسافة، ترجل الفارس ودعا الرجل الماشى إلى ركوب الجواد، ليستريح جسمه من التعب الذى ألم به. وكان الرجل الماشى لصًا من لصوص الخيل، فما إن تمكن من ظهر الجواد، حتى عدا به، لا يلوى على شىء، فناداه صاحب الجواد، وقال له: لقد وهبتك الجواد، فلن أسأل عنه بعد اليوم، لكنى أطلب منك أن تكتم هذا الأمر عن الناس، لئلا ينتشر بين قبائل العرب، فلا يغيث القوى الضعيف، ولا يرقى الراكب للماشى، فتزول المروءة من هذه الصحراء العربية، فيزول بها أجمل ما فيها. فلما سمع اللص هذا القول استحى، وأعاد الجواد إلى صاحبه، ولم يرضَ أن يكون أول داعٍ إلى القضاء على المروءة بين العرب».