«حامل الصحف القديمة».. ذاكرة مؤلمة وواقع عبثي - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«حامل الصحف القديمة».. ذاكرة مؤلمة وواقع عبثي

نشر فى : السبت 27 مايو 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 27 مايو 2023 - 8:40 م

ربما كان النجاح الأهم لرواية «حامل الصحف القديمة»، الصادرة عن دار الشروق للروائى إبراهيم عبدالمجيد، فى قدرة مؤلفها على تحويل شهادة على زمن وأحداث ما زالت حية فى الذاكرة، وما زالت راهنة وحالية بتداعياتها وآثارها، إلى عمل فنى شيق السرد، ومحكم البناء، رغم تضمين أجزاء من المقالات، ورغم التعامل مع عدد محدود من الشخصيات والأماكن.
هذا النجاح يذكرنا من جديد بأن المعيار ليس معاصرة الأحداث، ولا فى اعتبارها ماضيا وتاريخا، ولكن المعوّل هو مدى نضج التجربة، وتمثّلها، وقدرة الكاتب على تحويلها إلى فن، وهو أمر نلمس تجلياته أيضا فى أعمال روائية كثيرة مصرية وعالمية.
لا شك مثلا أن الشهادة، وربما التوثيق الاجتماعى والسياسى، لحقبة معاصرة بعينها، كانا من هواجس نجيب محفوظ الأساسية، وهو يكتب رواية مثل «يوم قُتل الزعيم»، أو «الباقى من الزمن ساعة»، أو وهو يكتب قصة قصيرة مهمة مثل «أهل القمة». ولا شك أن الجانب التوثيقى، والشهادة المعاصرة، حاضران بقوة فى أعمال صنع الله إبراهيم (رواية «ذات» مثلا) . ولكن هذه الكتابات محاولات فنية ناجحة بالأساس، قبل أن تكون شهادات على أحوال زمن معاصر.
وبينما لم يستخدم محفوظ عناوين الصحف، أو اقتباسات من مقالات، مثلما يفعل صنع الله فى أعماله، فإن نجيب كان يمكن أن يفعل ذلك بسهولة، دون أن ينتقص ذلك من براعته الفنية، لأن الاقتباسات والعناوين ستصبح فى تلك الحالة أجزاء من النص.
فى «حامل الصحف القديمة» توظيف أيضا لمقالات كتبها إبراهيم عبدالمجيد تعليقا على أحداث ثورة يناير، وحكم الإخوان، ووقائع ما بعد سقوطهم، وتشكل هذه المقالات عنصرا محوريا فى الرواية، ولكنها جزء يؤدى دورا فنيا بالأساس، إضافة إلى الشهادة السياسية والاجتماعية عما جرى.
إنها رواية بكل عناصرها الفنية، لا تأخذ من المقالات إلا ما تحتاجه، وهى اقتباسات فى موقعها، لأن بطل الرواية كاتب كان ينشر المقالات، ولأن صديقه، حامل الصحف القديمة، يرسل إليه هذه المقتطفات، لسبب غامض، فمرة يرفق معها تاريخ النشر، ومرة يحذف منها التاريخ.
المقالات إذن ليست سوى إحدى أدوات الكاتب المعتزل إيمان الناظر فى التذكر المؤلم، وقد صار رهين منزله، بسبب وباء الكورونا، لا يمكنه الخروج، إلا فى مناسبات محدودة، إلى وسط البلد، أو إلى شاليه فى الساحل الشمالى، ولا يمكنه التواصل إلا مع عددٍ محدود جدّا من الشخصيات، مثل زوجته ابتهال، وشباب يلتقونه على المقاهى.
كيف يمكن كتابة سردية شيقة وهامة بهذا الأدوات البسيطة وفى تلك الأجواء المحدودة؟ وما هى عناصر تشكيل مادة الشهادة المعاصرة؟
انطلق النص ــ أولا ــ من فكرة استعادة الذاكرة، وجعل من حامل الصحف القديمة سببا محوريا فيها، سواء فى لقاء بالصدفة على المقهى بعد كورونا، أو لأنه بالفعل كان بطل مقالات الكاتب الحوارية المستعادة، والتى تذكرنا على نحو ما بحواريات إحسان عبدالقدوس الشهيرة «على مقهى فى الشارع السياسى».
مزج السرد ــ ثانيا ــ بين الغرابة والعبثية، والسخرية والمأساة، وهو مزج شديد الصعوبة، ولكنه تم ببراعة، وبحرفية بالغة.
فالغرابة كامنة فى شخصية حامل الصحف القديمة، والذى يقودنا إلى عددٍ آخر من حاملى الصحف القديمة، والغرابة تتأكد بأجواء كورونا، وبالكمامات، وبأحلام وخيالات الكاتب إيمان، وبالشخصيات العجيبة التى تظهر فى المقهى، والعبثية حاضرة فى تفاصيل الواقع، الماضى والحالى، وفى فوضى الشارع، وتفاصيله، والسخرية حاضرة فى التعليقات، وفى الحوارات والتأملات، أما المأساة فنراها فى وقائع بعينها، وفى أزمة جيل بأكمله، وفى محنة منيرة ياسين، التى يمكن اعتبارها بطلة النصف الثانى من الرواية.
حقق السرد ــ ثالثا ــ تواصلا سلسا بين أجزاء مقالات إيمان الناظر قديما، وبين واقع الأحوال والسياسة والمجتمع فى عصر كورونا، فالمقالات توضح كيفية وصول الأحوال إلى هذا النحو، وهى ليست مقالات مباشرة، وإنما حوارت درامية ساخرة بين الكاتب إيمان، وصديقه حامل الصحف القديمة، وبعضها يقترب جدّا من مفهوم القصة القصيرة الحوارية، أى إننا أمام قصص داخل رواية.
فإذا عرفنا أن هذه المقتطفات هى بالفعل أجزاء من نصوص نشرها إبراهيم عبدالمجيد فى صحيفة «اليوم السابع»، فإن التقاطع بين الشخصية الروائية إيمان، وكاتب الرواية، يمنح الحكاية طرافتها.
مقالات عبدالمجيد فى الموقع توقفت بالفعل، ولكن ها هى تعود متنكرة ضمن رواية، وإذا كان إيمان يبدو معتزلا، ومؤمنا بعبثية الكتابة، فإن عبدالمجيد يوثق الشهادة ضمن رواية ممتعة، فيستعيد للكتابة حضورا وأهمية، كمقال وكرواية معا، وإذا كان حامل الصحف القديمة قد غاب من قبل، فقد عاد فى عز خطر كورونا، بل وعاد بعده عددٌ من حاملى الصحف القديمة.
فى قلب فنية النص أيضا وجود دلالات ثرية للحكاية، فالرجل الذى يحمل الصحف القديمة، لا يتكلم ولا يناقش سوى وقائع يومية معاصرة، وكأن الصحف القديمة ليست سوى ستار للتخفى، ولحماية نفسه، وإغفال تاريخ المقالات، والتركيز على أجزاء منها، والإشارة إلى محذوفات فى المقالات الأصلية، كل ذلك دال على الحالة والظرف والزمن، ودال أيضا على أهمية الكلمات بذاتها، بصرف النظر عن تاريخها.
يتكرر ــ رابعا ــ فشل محاولات الهروب، سواء من الحاضر، أو من الماضى القريب، فالسلسلة ممتدة، والنتائج من المقدمات، والغياب بالحشيش تتبعه إفاقة، والروائى الشاب الذى يريد كتابة رواية عن هروب أدباء وفنانين موتى من مقابرهم، لتدخين الحشيش، ثم العودة إلى المقابر، سيصبح جزءا من واقع كورونا الراهن، وعزلة إيمان، ستنتهى نهائيّا، مع اكتشافه هو وزوجته، لمأساة منيرة ياسين.
الذاكرة مؤلمة، والواقع أغرب من الخيال، ولكن التجاهل ليس ممكنا، والصحف القديمة، لا تلغى حضور الواقع.
يمكنك حقا أن تفترض أن الرواية تمثّل رد الفن، على قسوة الحزن، وصدمة الخيبة، وألم الخذلان.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات