أشياء في حياتنا كانت ضرورية.. غابت حتى اندثرت - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 29 مايو 2025 8:14 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أشياء في حياتنا كانت ضرورية.. غابت حتى اندثرت

نشر فى : الثلاثاء 27 مايو 2025 - 7:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 27 مايو 2025 - 7:55 م

تهف صور أشياء مع كل نسمة تحمل ذكرى من ذكريات الماضى. تهف فأسارع بالاتصال برفيقة من رفيقات هذا الماضى الغنى بأشخاصه وأشيائه وحكاياته، أتحرى عندهن، وبخاصة عند نبيلة وأميرة، صدق وتوابع ما هف من ذكريات هذا الصباح. أتحرى أيضًا قدر تعاستهن أو سعادتهن بالتعامل فى حينها مع تلك الأشياء.

يتصدر قائمة هذه الأشياء «وابور الجاز» أو «البريموس»، الاسم الذى اشتهر به فى مجتمعنا كما فى المجتمعات الأوروبية. يأتى ذكره الآن ومعه تهف رائحة الكيروسين وهو يتبخر. يزوره سباك الحى المحترم كلما أصابه داء الصمت المريب أو انسداد مجرى الهواء أو البخار عبر ما كنا مع الخبراء نسميه بالفونيه. الفونيه فيما أذكر هى رئة الوابور فإن أصابها الانسداد توقف الوابور عن العمل وهو شر لا تتحمله سيدة البيت، فيجرى تكليفنا بالذهاب إلى السوق لنشترى الإبرة بمليم أو «نيكله»، لنوفر تكلفة الزيارة والكشف وروشتة العلاج التى يوصى بها أو ينفذها السباك المحترم. أذكر أصعب الأوقات وأشدها حرجا، كانت حين يقع انسداد مجارى بخار الكيروسين الملتهب يوم الغسيل وأيام الاستحمام والعزائم.

كانت للسباك مهمة أخرى لا تقل أهمية وإن كانت السبوبة لا تقل تفاهة عن سبوبة انسداد الفونيه فى البريموس. ففى كل حنفية من حنفيات ذلك الزمن توجد «جلدة»، إن هى نعمت أو تفرطت أو تآكلت توقفت الحنفية عن أداء وظيفة التحكم فى حجم وسرعة المياه المتسربة منها. يأتى السباك، وفى العادة كان يمر على دراجة ويعلن عن وصوله بالصوت العالى الملحن غالبًا أو مستعينًا بأجراس الدراجة.

• • •

نذكر أيضًا «مبيض النحاس». رجل مكتمل القوة يستخدم قدميه فى تبييض النحاس أكثر مما يستخدم يداه. يصل إلى شارعنا، وهو يدفع أمامه عربة صغيرة بعمق كبير. يجمع من الأوانى النحاسية ما عاد منها اللون أقرب إلى اصفرار النحاس، الأمر الذى يضر بصحة مستخدميه. كان مؤتمنا على ما يأخذه معه عددا وتبييضا. كان أيضا جاهزا ومستعدا بعجائن وسوائل الزئبق ليقدم خدمة التببيض الفورى على سلم المنزل أو تحت بيره أو فوق السطوح. كثيرا ما كنت أتوقف أمام محال صنع الأوانى النحاسية كلما زرت جدتى وبيتها يقع فى شارع "النحاسين" فى حى باب الشعرية بالجمالية. لم تعد الناس تستخدم النحاس فى الطبخ ولا عادت هناك مهمة تبييض نحاس واختفت محال صنع الأوانى النحاسية وراح بعضها يروج لللأوانى الزجاجية أو المصنوعة من الألومنيوم، وما زال الشارع يعرف لدينا نحن أبناء الحى القديم بشارع النحاسين.

• • •

ذكرت مبيض النحاس وعربته عميقة البطن أو القلب وكان واجبًا أن أذكر متجولًا آخر بعربته عميقة البطن وهو بائع ومشترى «الروبابيكيا». الكلمة كما عرفت بعد سنوات أصلها إيطالى، وهى تتكون من كلمتين روبا ومعناها «هدوم» وفيكيا ومعناها «قديمة». أّذكره مارًا على شقق عمارتنا يدق على أبوابها دون تردد أو استئذان معلنًا وصوله واثقًا أن أغلبية السكان مشتاقون لرؤيته وتبادل المنفعة معه. رأيته هو نفسه وقد استخدم عنوانًا مختلفًا لمهنته، صار يمارس المبادلة بين «الهدوم» القديمة والأوانى والأشياء المصنوعة من معادن لا تصدأ، وبالفعل اتخذت المهنة اسمًا جديدًا ومبتكرًا وهو «سكسونيا» نسبة إلى إقليم ألمانى معروف. وفى مرحلة تاريخية لاحقة صارت المبادلة تجرى بين «الهدوم» وأشياء أخرى مصنوعة من ابتكار جديد أطلقوا عليه مادة «البلاستيك»، وأقبل على منتجاته ربات البيوت، أكثرهن راضيات ومرحبات والقليل منهن مترددات و«متأنفات».

• • •

لا أذكر أننى فى تلك الأيام دخلت مطبخا لم توجد فيه «نملية»، ولا أّذكر أننى فى أيامنا هذه دخلت مطبخًا ووجدت فيه نملية. كان قدامى الأهل، مع هبوط الليل، يحفظون ما تبقى مما أنتجوا وأبدعوا واستهلكوا خلال النهار فى نمليتهم المجهزة بشباك ومبيدات من نوع مخفف لحماية المأكولات ضد الحشرات وبخاصة النمل.

أذكر موقعها فى مطبخنا تمامًا كما أذكر الشباك البحرى موقعًا لصينية القلل المبهرة بلمعانها ولمعان أغطية القلل. أذكر بالإحساس ربما برودة الماء المحفوظ فى القلل والمعرض لنسائم باردة تهب عليها من الشمال مارة بفخار أثبت على مر القرون نجاعته الأسطورية فى تبريد الماء وتنقيته من الشوائب. وجود هذه القلل لم يمنع ولم يتعارض مع وجود ثلاجة تعمل بألواح الثلج وليس بالكهرباء. على كل حال لم تكن ألواح الُثلج متاحة دائمًا أو بسهولة فى منافذ البيع ولا مع شباب التحميل والتوصيل.

• • •

إن نسيت فلن أنس الشبابيك «الشيش»، أى المصنوعة بذكاء وفن من الخشب، بحيث تسمح بمرور الهواء منقى فى موسم العواصف وفاقدًا سخونته أيام الصيف شديد القيظ، وبحيث لا تسمح للذباب بإقلاق رب البيت ساعة القيلولة. أذكر تحشيد قوانا كأطفال و«شغيلة» وربة بيت من أجل طرد الذباب قبل إغلاق «الشيش» وإظلام الغرفة.

وإن نسيت فلن أنسى استمتاعى فى عصارى أيام طفولتى بسحر ما كانت تعرضه علينا، نحن أطفال الحى، السفيرة عزيزة والأراجوز، وما كانت تبيعه لنا بقرش لا أكثر عربات جروبى المحملة بشتى أنواع الجيلاتى الإيطالى.

وإن نسيت فلن أنسى أننى لم أنسَ أننى عشت طفولة سعيدة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي