أزمة نقد فعلًا.. أم أزمة نقاد؟ - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 7:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أزمة نقد فعلًا.. أم أزمة نقاد؟

نشر فى : السبت 27 أغسطس 2022 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 27 أغسطس 2022 - 7:40 م

ــ 1 ــ
مع كل ندوة أو محاضرة موضوعها النقد أو يتحدث فيها «نقاد» أو يكون الحديث متصلا بالنقد من قريب أو بعيد أدرك تماما حجم الأزمة التى يعانيها النقد، باعتباره واحدا من أرقى وأهم الأنشطة المعرفية القائمة على التواصل والحوار والنقاش والتحليل، وغايتها الإضاءة المعرفية والجمالية بالنصوص الأدبية، وشيوع الإدراك الجمالى (بلغة علم نفس الإبداع الحديث) فى العموم.
ولطالما شكلت حركة النقد منذ بواكيره فى الثقافة العربية الحديثة رأس الحربة فى اتجاهات التجديد الفكرى والثقافى والمساهمة الفعالة فى البحث عن إجابات لأسئلة التقدم والتأخر وإشكاليات النهوض والتخلف، ووضع بذرة البحث المنهجى والتفكير النقدى، ليس فقط فى معالجة نصوص الأدب القديم والحديث، إنما أيضا فى كل ما يخص القضايا الفكرية والثقافية الكبرى التى واجهها النقاد الأوائل، ومن تلاهم من أجيال متعددة منذ عشرينيات القرن الماضى وحتى العقد الأخير من القرن العشرين.
ودونما الخوض فى حديث طويل عن تاريخ النقد وأعلامه وأسماء كبار النقاد، فقط أشير إلى النقد مثله مثل كثير من الحقول والمعارف التى يتم تلقيها فى الأساس من خلال الجامعة قد نالها ما نال غيرها من فتور أو تراجع أو انحسار لأسبابٍ يطول الحديث والتفصيل فيها، لكن لعل من أهم مظاهرها، هذا الذى بات شاهدا وماثلا للعيان فى إنتاجات (كتابات وأحاديث ولقاءات ومناقشات... إلخ) تصف نفسها بأنها «نقدية»، هذا الضعف الظاهر فى التكوين والثقافة وهذا الرطان المستغلق على الفهم «كلام ملغز غير مفهوم» الذى يغرق حتى النخاع فى المصطلح النقدى المستورد دونما وعى أو فهم أو تمثل أو استيعاب، وتكون النتيجة أحاديث لا يسمعها أحد وكتابات لا يقرأها أحد، وبالدرجة التى يمكننا أن نطلق عليها ظاهرة سائدة ومتفشية فى مجالنا الأدبى والنقدى العام فى العشرين سنة الأخيرة.
ــ 2 ــ
أقول هذا الكلام من وحى ندوة حضرتها أخيرًا، واستمعت فيها إلى كلامٍ عجيب وغريب وثرثرة يسمونها «نقدا» وما هى بنقد! ومن نقاد يتحدثون عن كتابٍ لم يقرأوه وأعلنوا ذلك على الملأ وتحدثوا عنه حتى أكثر مما تحدث عنه صاحبه!
ولا أفهم كيف لأحد أن يتصدى للحديث عن كتاب دون أن يكون مستعدا وحاضرا وقارئا لنصه ومرتبا لأفكاره!
أنا مؤمن تماما بما قاله صديقى الناقد الكبير محمود عبدالشكور بأنك إذا قرأت (أو سمعت) نقدا أكثر غموضا من العمل الذى يكتب عنه، فاعلم أن كاتبه لا يفهم معنى النقد، أو أنه لا يفهم العمل، أو أنه يطبق قواعد جامدة دون تفكير.
ومن وحى هذا اللقاء الذى كشف لى عمق الأزمة وتجذرها فى دائرة إنتاج النقد وتلقيه على السواء، استدعت الذاكرة بعضا من أصداء ما قلناه وكتبناه عن الناقد الراحل الكبير الدكتور على الراعى الذى كان ملء السمع والبصر لما يزيد على نصف القرن، كانت مقالاته وأحاديثه متدفقة سيالة تحظى بمقروئية عالية، ومتابعة كثيفة من جمهور القراء والكتاب والنقاد على السواء، وقد ظن البعض جهلًا أن هذه الكتابة المباشرة السلسة قد تعنى غياب المنهجية أو التحلل من المفاهيم الاصطلاحية المنضبطة أو أن صاحبها يقف على الحافة من الكتابة الانطباعية الذوقية، ولا يكاد يغادر هذه الدائرة.. أبدًا.
الأمر على عكس ما يظن هؤلاء، تمامًا، فالناقد الذكى والقادر على إنتاج هذا اللون من الكتابة النقدية المحرضة على قراءة النصوص والاستمتاع بها هو بالأساس ناقد واسع الثقافة وملم بالتأكيد بالمعارف والمناهج والأدوات النقدية اللازمة، ويوظفها بمهارة فى إنتاج نصوصه؛ دون أن يتورط فى الفظاظة النقدية المتعالية أو الخشونة الأسلوبية المنفرة أو الجفاف الذى يلازم الكثير مما نقرأه أو نسمعه الآن.
ــ 3 ــ
النقد مع على الراعى مزيج من المعرفة العميقة والذائقة المدربة والفهم المعتدل المستنير (الذى يجافى الالتواء والتعقيد والإغراب وتعمد الغموض ويبعد مسافات ومسافات عن النقد بمفهومه التنويرى الكاشف) ولفت انتباهى أنه كان يكتب بلغة عربية سليمة تماما واضحة وسلسة وسائغة، وهو الذى تخرج فى قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة!
الدرس الأول لا يمكن لكاتب مهما كان أن يكتب مقالًا أو كتابًا أو ينتج معرفة مقروءة أو مسموعة أو مرئية من دون أن يكون مؤهلًا تأهيلًا حقيقيا؛ من حيث تكوينه الفكرى والثقافى ومهاراته وأدواته التى سيقدم بها هذه المعرفة؛ كان على الراعى مثقفًا حقيقيًّا؛ وبقدر اطلاعه المذهل على الآداب الحديثة بفضل إجادته وتمكنه وتخصصه فى الآداب الإنجليزية، بقدر قراءاته الغزيرة واطلاعه الواسع على التراث العربى، بحقوله ومجالاته المعرفية، وتدخلاته وتشعباته التى قد تكون سببًا فى انصراف الكثيرين عن خوض مغامرة ومتعة قراءة هذا التراث.
الكثيرون لا يدركون الفارق بين نص سينشر فى صحيفة يومية أو فى مجلة أسبوعية أو شهرية، وبين آخر ينشر فى دورية علمية محكمة، والأمر ذاته فى طريقة المحاضرة والحديث الموجه إلى جمهور عام فما يصلح لمخاطبة جمهور متخصص فى قاعة جامعية أو مركز بحثى لا يصلح أبدًا لمخاطبة جمهور عام فى ندوة عامة أو مناقشة نص أدبى أو حتى كتاب نقدى أو حفل توقيع مثل ما نرى فى كثير من الفعاليات التى نشتكى من نفور الجمهور منها!

ــ 5 ــ
وما زلت عندى رأيى واعتقادى بأن أقرب نموذج لكتابة على الراعى المحبة الذكية ما يكتبه محمود عبدالشكور من نقد ثقافى (إذا جاز التعبير) يعالج أفلاما سينمائية وتسجيلية، ومسلسلات درامية، وروايات، وقصصا قصيرة، ودواوين شعرية، وأى ظواهر أو نصوص أخرى تندرج تحت هذا المسمى الجميل «الإبداع» دونما حذلقة أو تقعر أو فذلكات تسم النقد بسوء السمعة للأسف الشديد!