طبيعة التنبؤ الاستراتيجى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طبيعة التنبؤ الاستراتيجى

نشر فى : الأحد 28 ديسمبر 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : الأحد 28 ديسمبر 2014 - 8:35 ص

نشر المحلل السياسى الأمريكى الشهير جورج فريدمان دراسة مهمة على موقع مركز ستراتفور الأمريكى، المعنى بالشئون الجيوستراتيجية والاستخباراتية الدولية والأمن العالمى. استهل الكاتب الدراسة بتعريف التنبؤ الاستراتيجى بأنه ذلك النوع من الإدراك البعيد غالبا عن أجهزة الاستخبارات: بمعنى الأحداث التى لا يمكن فهمها من خلال المصادر، والتى لم يكن المشاركون فيها يقصدونها أو يتوقعونها. وبالإضافة إلى ذلك، فإنها لا تمكن صناع القرار من توقع احتمالات وقوع الأحداث، لكنها تتيح لهم الاستعداد لتحولات واسعة النطاق. وبالنسبة لمعظم القادة السياسيين، تعتبر القضايا المباشرة الخاضعة للسيطرة أكثر جاذبية، بينما تتطلب القضايا الاستراتيجية، والتى قد تكون، على كل حال، خاطئة، جهدا ضخما ذا تكاليف سياسية. ولا يتم تحسين الوظائف فى مجال التحليل عبر التفكير واسع النطاق بعيد الأجل، حتى لو كان صحيحا تماما. ونظرا للتحولات المتكررة والجذرية فى التاريخ التى تتحدى الفكر التقليدى، تبدو العديد من التوقعات الاستراتيجية سخيفة لمستخدم المعلومات. وبهذا المعنى، تعتبر شكلا من أشكال الاستخبارات التى تمارس على أفضل وجه خارج أجهزة الاستخبارات الحكومية والدولة.

ويضيف فريدمان أن التحليلات الاستراتيجية لا تتحرك وفقا للمصدر؛ ولكن للنموذج. ولا يعنى هذا أن التحليلات الاستراتيجية لا تعتمد على تدفق المعلومات، ولكن مستوى المعلومات لا يتطلب بالضرورة معلومات يعتبر اكتشافها صعبا وخطيرا (على الرغم من أنه قد يكون كذلك، فى بعض الحالات). كما أنها لا تتكون من مجموعات واسعة النطاق. ويتمثل المبدأ الكلى للتحليل الاستراتيجى فى التجاهل التام للمعلومات غير المهمة التى يتم جمعها من أجل تحديد مركز الثقل للأحداث. غير أن إشارة صغيرة قد تلفت الانتباه فى بعض الأحيان إلى عملية كبرى، لا سيما فى الشئون العسكرية. غير أن الإشارة الصغيرة قد تتطلب قدرا هائلا من الوقت والجهد، على الرغم من عدم وجود وقت كاف لفهم المعنى. علاوة على أن العملية، تكون فى كثير من الحالات، على مرأى من الجميع. والمهم أن تلقط الفكرة، والفكرة الأصعب هو أن تصدقها.

ويشير فريدمان إلى مقولة مهمة: «كن غبيا». ويعنى بهذا ألا يكون تفكيرك معقدا للغاية بحيث لا ترى ما أمام عينيك، أو تقدر قيمة للسر الذى تحصل عليه بتكلفة كبيرة، أكبر من قيمة الحقائق التى يعلمها الجميع ولكنهم يعجزون عن فهمها. حيث إن الإفراط فى التعقيد والمبالغة فى حب السر يخفيان العمليات الاستراتيجية الجارية. وهكذا، على سبيل المثال، يحدث تفتيت الاتحاد الأوروبى، بسبب أن قيمة صادرات ألمانيا تعادل 50 فى المائة من ناتجها المحلى الإجمالى، وهى حقيقة يعرفها الجميع، ولكن قلة هى التى تفهم الآثار الهائلة المترتبة على ذلك.

هناك نوعان من أسس هذا النموذج. الأول، أنه لا يوجد تمييز بين الشئون الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية. وهى وسائل مناسبة لتنظيم الإدارات، لكنها فى الواقع، جانب مختلف يرتبط بالدولة ــ الأمة ويتعلق بالأنشطة الاجتماعية والسياسية. وتختلف الأهمية النسبية لكل منها وفقا للزمان والمكان، لكنها موجودة دائما وتتفاعل دائما. وينبغى أن ينظر التحليل الاستراتيجى إلى الامور من وجهة نظر متكاملة.

والثانى أن صناع القرار محصورون ضمن مصفوفة من القوى سوف تحطمهم ما لم يستوعبوها؛ فصانع القرار الناجح هو من يفهم الظروف التى يجد نفسه فيها. وهم يصنعون التاريخ، ولكن ليس على غرار ما قال كارل ماركس. فمن الناحية السطحية، يبدو أن هذا مرتبط بطريقة التفكير الماركسية. وفى الواقع، لم يكن ماركس نفسه المنشئ لهذه الفكرة. فقد سبقه آدم سميث بمفهومه عن اليد الخفية، حيث يندفع الناس إلى تحقيق مصالح خاصة وعن غير قصد منهم تزيد ثروات الأمم فى سياق هذه الأنشطة. ويدين سميث نفسه بالفضل لمكيافيلى، الذى رأى أن على الأمير ألا يرفع عينيه عن الحرب، ولكن يجب أن يركز على الأشياء التى اضطرته الظروف إلى القيام بها. وترجع ميزة الأمير إلى أدائه الدءوب لما يجب عليه، وليس فى حلمه بالقوة التى لا يمتلكها. ولا يتفق التنبؤ الاستراتيجى والماركسية إلا فى أن كلا منهما يعتقد أن الضرورة، أساس الحياة السياسية.

<<<

الضرورة يمكن التنبؤ بها، خاصة إذا كنت تتعامل مع جهات فاعلة عقلانية، والسياسى الناجح عقلانى للغاية داخل المساحة التى يشغلها. وتستلزم التحركات المطلوبة للصعود إلى قيادة مليون شخص، ناهيك عن مئات الملايين، يمتلكون انضباطا وحدسا غير عاديين. حيث يمكن لقلة من البشر أن تبدأ الصعود، لكن الأكثر انضباطا فقط يصل إلى المرتفعات. ومن المألوف بين الصحفيين والأكاديميين الحديث عن الساسة بازدراء. فهم يفتقرون إلى معرفة وذكاء السياسيين. وهكذا، يفهم الصحفيون خطأ العقلية المختلفة جذريا على أنها روح دونية. ويرضى هذا حاجتهم لعدم الشعور بالنقص، ولكن هذا لا يساعد على توجيهنا إلى الفهم السليم.

فإذا كنت تشاهد بطلا فى الشطرنج يلاعب بطلا آخر، سوف تلاحظ أن اللعبة يمكن التنبؤ بها إلى حد ما. فكل منهما يدرك تماما الظروف ويعرف أن الخيارات الواضحة وهمية. وتقابل كل خطوة بخطوة مضادة متوقعة. وفى حالات نادرة، يجد لاعب متألق خطوة مختلفة. وتنتهى معظم الألعاب بطريقة يمكن التنبؤ بها. ولكن يصعب التنبؤ بخطوات الهواة. وينطبق الشىء نفسه على السياسيين؛ فلا يمكن توقع الإهمال والعشوائية، إلا أنهما لا يستطيعان الاستمرار فى البقاء.

<<<

ويرى فريدمان أن مهمة الاستخبارات الاستراتيجية تتمثل فى بناء نموذج يأخذ بعين الاعتبار مجموعة واسعة من القيود التى تحد من خيارات القائد، وتحديد ما ينبغى عليه القيام به إذا كان يريد البقاء كزعيم وإذا كان يريد أن تكون بلاده آمنة. وتعتبر الجغرافيا قيدا واضحا، حيث خلق موقع ألمانيا فى شمال أوروبا قدرتها على تقديم أسواق قوية تهيمن على أسواق الشرق والجنوب الشرقى، ضرورة للتصدير والحفاظ على الهيمنة السياسية فى أسواقها. وكان هذا صحيحا منذ توحيد ألمانيا فى عام 1871. وفى الوقت نفسه، أدى موقعها وعدم وجود حواجز طبيعية، إلى كونها بلدا غير آمن بطبيعته. فصار عليها أن تحافظ على أسواق صادراتها بينما تؤمن سلامتها المادية سياسيا أو عسكريا. ويتيح لنا هذا النموذج المبسط أن نتوقع عددا من الأمور بغض النظر عمن فى السلطة. أولا، لتجنب الاضطراب المحلى، تقوم ألمانيا بالتصدير بغض النظر عن الظروف. ثانيا، تشكل برلين البيئة السياسية الملائمة لتسهيل ذلك. ثالثا، عليها أن تحاول تجنب المواجهة العسكرية. رابعا، وفى الظروف القصوى، يجب عليها بدء الصراع بدلا من انتظار قيام أعدائها بذلك.

ويبدأ هذا النموذج، الذى طرحته لمجرد توضيح المفاهيم بالقيود السياسية الداخلية المفروضة على الزعيم الألمانى. ويترتب على ذلك أن يكون التصدير هو الحل الوحيد الفعال. ومن ثم ينتقل إلى مخاوف أخرى تؤثر على نجاح المستشار الألمانى. فكان يتعين على المستشارة أنجيلا ميركل الحفاظ على الصادرات أو مواجهة البطالة والمعارضة السياسية. ويجب أن توجه ألمانيا جزءا من صادراتها إلى الاتحاد الأوروبى، لذلك فقد شكلت الاتحاد الأوروبى لتسهيل هذه التجارة. وفى الوقت نفسه، عليها أن تحمى أمنها القومى بعدم طرح أى تهديد استراتيجى لأحد.

ويتضمن النموذج الضرورات التى ينبغى الوفاء بها، والقيود التى تشكل الحلول، وصناع القرار الذين يحترمون هذه الشروط، وتمتد هذه المتغيرات إلى مجالات متعددة وتتفاعل مع نماذج مماثلة لبلدان أخرى. ولتحقيق النجاح، يجب أن تكون الخطوط العريضة للسلوك متماثلة، ولا ينبغى الانحياز المفرط للبيانات التى يتم استخدامها؛ وإلا ستطغى على تفكير المحلل وتحجب عنه الحقيقة. ولا شك أن عدم وجود نموذج مسبق ينظم اختيار وتدفق المعلومات، يؤدى إلى انهيار النظام تحت وطأة معلومات عشوائية. ومن المهم الوضع فى الاعتبار عدم محاولة صنع النموذج النفسى للصانع القرار. ليس فقط لأن من المستحيل خلق مثل هذا النموذج، ولكن أيضا لأن علم نفس السلطة والقادة الأقوياء يميل إلى جعلهم متماثلين أكثر كونهم مختلفين. ويعتبر علم النفس السلطة بشكل عام أكثر فائدة من علم نفس الأفراد. حيث هناك نوعان من مفاتيح التنبؤ الاستراتيجى. أولا، التركيز على المجتمع والأمة والدولة وليس الأفراد. ثانيا، ألا نخلط بين القصد الشخصى للزعيم الفردى وبين النتيجة.

التعليقات