الحياة والمعنى - إكرام لمعي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة والمعنى

نشر فى : الخميس 29 أبريل 2010 - 11:53 ص | آخر تحديث : الخميس 29 أبريل 2010 - 11:53 ص

 هناك حقيقة مؤكدة أن الناس غير قادرين على فهم ذواتهم ولا فهم العالم المحيط بهم (أى الحياة).. وقد عبر كثيرون من الفلاسفة والفقهاء والعلماء عن هذا الموقف بالقول إن الذى يفعلونه هو ما ليس يريدونه فى كثير من الأحيان. هذا بالنسبة لفهم الذات، أما بالنسبة لفهم العالم فيتخذون معظمهم موقف المتحير الذى لا يجد تفسيرا لأحداث كثيرة. ولا شك أنك قرأت أو سمعت ــ عزيزى القارئ ــ عن مثقفين كثيرين وصلوا فى تخصصاتهم إلى القمة لكنهم مع امتداد العمر بدأوا يتساءلون عن جدوى ما أنجزوه.. وهل كان لوجودهم معنى؟ ولقد قرأت للدكتور زكى نجيب محمود مقالا عن جدوى الكتابة ومن الذى قرأ له؟ وكم الإضافة التى أضافها. ثم إن كثيرين أيضا من الذين كانوا نجوما فى حياتهم فى الأدب أو العلم أو الثقافة العامة اتجهوا إلى التدين عندما انحسرت عنهم الأضواء، بل وقاموا بتأليف كتب دينية مثل عباس محمود العقاد وطه حسين وغيرهما. ورغم أن حقيقة (عدم فهم الذات والحياة) هى ظاهرة تنطبق على كل البشر، فإن الكثير منهم لا ييأسون ولا يتوقفون، بل يستمرون وبإصرار فى محاولة الفهم هذه وليست العلوم مثل علم الفلك والكيمياء والطبيعة والفضاء والرياضيات والطب، بل وأيضا الفلسفة والقصة والشعر... إلخ، سوى محاولات بشرية للكشف عن المجهول وإدراكه، وهى جميعا محاولات تعين الإنسان فى كشفه عن المجهول.


يقول لنا علماء التفكير العلمى والمنطق، إنه إذا أراد إنسان ما أن يدرس ظاهرة تحيره عليه أن يكون موضوعيا، وإذا لم يكن موضوعيا فإن عواطفه ورغباته سوف تمنعانه عن الوصول إلى الحقيقة، فأهواؤه سوف تسد عليه طرق التعقل والتفكير العميق الهادئ. صحيح أن الموضوعية صفة يتميز بها النضوج العقلى، وتتميز بها الحضارة الراقية، وهى الطريق السهل للمنجزات العظيمة فى عالم المعرفة، لكن يدعى البعض أن الموضوعية أحيانا تمنع عنا الفهم، فكيف يكون هذا؟! كثيرا ما نسمع البعض ينادى بالموضوعية بينما نرى تصرفاتهم وقراراتهم وسلوكهم أبعد ما يكون عنها، ولكى نفهم هذه القضية ونعذر أولئك الذين يدعون الموضوعية، نقول إن الإنسان يعالج القضايا التى يتعرض لها بطرق مختلفة ومتنوعة، بل فى مواجهة قضية واحدة تختلف معالجته لها اختلافا كليا من وقت لآخر. لنأخذ مثلا قضية الموت.. فنحن نقول ونسمع ونؤمن أن «كل نفس ذائقة الموت»، وهذه مسألة منطقية موضوعية ولا يختلف عليها اثنان. وحتى الذين لا يؤمنون بالخلود مثل الملحدين واللا أدريين يؤمنون بهذه الحقيقة، فكل الدلائل تشير إلى صحتها ولا يستطيع إنسان أن يعارض أو يجادل هذه الحقيقة، وأيضا وفى نفس السياق ــ رغم الحقيقة الموضوعية ــ لهذه العبارة فهى لا تروق ولا يرحب بها الإنسان كثيرا، بل ويشمئز منها عندما تذكره بها أو يقرأها فى مقال أو كتاب، وربما يتمنى أن لا تكون هذه العبارة صحيحة،غير أنه يسلم بصحتها ويتقبل مضمونها كشىء عادى دون أن يخاف أو يرتعب أو ينوح.


لكن ــ وهذا هو العجيب فى الإنسان ــ إذ قال لك أحدهم ــ عزيزى القارئ (إنك ستموت اليوم) ويكون قائلها متأكدا من ذلك مثل الطبيب الذى يعالجك، أو الضابط الذى يرأسك فى الجيش وهو يتحدث معك عن عملية انتحارية خلف خطوط العدو فى موقف ميئوس منه فى الحرب، أو السجان الذى يغلق عليك باب الزنزانة. هنا تكون للعبارة وزنا وسلطة تجعلك تصدق مضمونها، ورغم أن العبارة تدخل كجزء فرعى من عبارة أوسع (كل نفس ذائقة الموت)، فإن هذه العبارة الأخيرة عندما تسمعها تعلم أنك ستموت يوما ما. لكن عبارة (ستموت اليوم) لها وقع يختلف تماما عن عبارة (كل نفس ذائقة الموت)، فالعبارة الأولى تقع عليك وقع الصاعقة، وربما ترفض العبارة ولا تصدقها، وربما ترحب بها، ولكن من الثابت أن هذه العبارة أثرت فيك وغيرت حياتك.. فإن كنت تفكر وتخطط من قبل سماعك هذه العبارة أنك ستقوم برحلة استجمام وراحة، أو كنت مهموما بدين عليك جاء موعد استحقاقه ولا تملك مالا، أو كنت تفكر بأن تؤمن على حياتك فى شركة تأمين على الحياة، كل هذه الأمور أو المخاوف أصبحت أمورا تختلف الآن عما كانت عليه قبل سماعك إياها، فلم تعد تفكر فى الاستجمام ولا الدين ولا تأمين الحياة، لقد أصبح الموت هو الذى يهمك أو يعنيك أنت بالذات.


لكن دعونا نفكر فى عبارة ثالثة لها علاقة بالعبارتين السابقتين (يا غبى هذه الليلة تطلب نفسك منك).. نلاحظ هنا أن اللغة تغيرت وأن المتكلم غير الذى تفوه بالمسألتين الأوليين، وقد جاءت هذه العبارة على لسان السيد المسيح فى ذكره لمثل عن إنسان غنى أخصبت أراضيه فقال فى نفسه (أهدم مخازنى وابنى أعظم.. وأقول لنفسى يا نفسى لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة استريحى وكلى واشربى وافرحى)، ثم لا يلبث حتى يسمع صوت كأنه صاعقة تنزل به (يا غبى هذه الليلة تطلب نفسك منك وهذه التى أعددتها لمن تكون؟).


وهو تقريبا نفس المثل الذى ذكر فى القرآن عن الرجل غير المؤمن الذى كانت له جنتان وكان له صاحب من المؤمنين، وعندما أتت الجنتان ثمرهما وكان متوافرا قال لصاحبه وهو يحاوره «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا»،ودخل جنته وهو ظالم لنفسه.. قال:«ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا»، فقال له صاحبه وهو يحاوره: «أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة، ثم سواك رجلا، لكن هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا، ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، إن ترنى أنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربى أن يؤتينى خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا».. «وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول: يا ليتنى لم أشرك بربى أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا» (الكهف 18: 32 ــ 44).


القضية هنا تتعدى كونها مجرد إنذار بالموت إنها دعوة ليقدم الإنسان حسابه، هذه الدعوة يرى فيها من يؤمن بالله انه حساب الله الديان العادل، وهو ما يجعله دائما فى حالة قلق من هذه اللحظة، بينما الذى لا يؤمن بوجود الله يرى أنها كلمات توقفه أمام ما أنجزه موقف القلق والاضطراب، إنه موقف الحساب. بل وإنه لا يستطيع أن يحقق وينجز ما حلم به وهو يسمع هذا الصوت معنويا داخله، وهو يرى فشله فى كل ما حققه.. فما هو المعنى الذى توصل إليه من خلال كل ما أنجزه؟! إنه إحساس بالمرارة والأسى عندما يدرك الإنسان مهما كان أن حياته كلها كانت هباء وتفاهة.. فالدعوة التى توجه لكل منا سواء من الله أو من الإنسان نفسه كى يحصى أعماله، ويرى أن مجموع ما قام به هو صفر كبير دعوة خطيرة تتطلب منا أن نفحص ذواتنا وأن نحاسب أنفسنا بشكل جاد وخطير.


والآن عزيزى القارئ دعنا نعيد النظر فى الجمل الثلاث: الجملة الأولى.. (كل نفس ذائقة الموت) قد يهمك أمرها وقد تشعر أنها تستأثر بشىء من تفكيرك، إنها مسألة عامة موضوعية، أما الجملة الثانية (إنك ستموت اليوم) فأنها ترعبك لأنها قضية خطيرة تتناول حياتك وكيانك الطبيعى وجميع ما يلازم الحياة والكيان، أما الجملة الثالثة (يا غبى أو «أكفرت بالذى خلقك من تراب») فإنها تحطمك تحطيما لأنها تتناول المعنى من وراء حياتك وإنجازاتك مدى ما حققته لله والآخرين والمجتمع من جراء وجودك الشخصى، إنها الإجابة عن السؤال: هل كان هناك معنى من وجودك فى الحياة سواء كنت مؤمنا أو غير مؤمن؟!


وفى انتقالنا من العبارة الأولى إلى الثالثة مرورا بالثانية نحن ننتقل من العام والموضوعى إلى الخاص والشخصى، ومن المعلومات إلى المسئولية. إنه انتقال من ما اختزنه الإنسان وأنجزه لذاته طوال حياته إلى حقيقة هذه الذات والنفس والمعنى من وجودها. وهنا أهمية التمسك بالاختبار الشخصى والذاتى وهو الجانب الوجدانى الذى يحض على وجود المعنى بنفس تمسكنا بالموضوعية المنطقية والعلمية والمعلومات. فالموضوعية والعلوم تسأل إذا كانت الحياة تستمر بعد الموت أم لا؟ أما الاختبار الوجدانى فإنه يجعلك مستعدا للحساب من الله أو نفسك أو من الناس بثقة لأن الاختبار يعطى معنى لحياتك ووجودك. وإننا نرى هذا الفرق مرة بعد أخرى فى تصرف الناس الذين يؤمنون بالآخرة بعقولهم ولكنهم يرتعدون خوفا إذا ما مثل الموت أمامهم. وهكذا الاثنان لا ينفصلان بل يكمل احدهما الآخر، فالاختبار الوجدانى دون الموضوعية هشاشة فى التفكير وسطحية واهتزاز مع الريح يصل فى بعض الأحيان إلى الخرافة وتغييب العقل والموضوعية، دون اختبار وجدانى رعب من المجهول ساعة سماع الصوت داخلنا ورؤية الخطر، فلنفهم ونفكر بموضوعية ولنسمع الصوت بثقة وراحة لأننا حملنا المعنى بين جوانحنا.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات