في فلسفة البيت والسعادة - العالم يفكر - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في فلسفة البيت والسعادة

نشر فى : الخميس 29 سبتمبر 2022 - 6:15 م | آخر تحديث : الخميس 29 سبتمبر 2022 - 6:15 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى، تحدثت فيه عن البيت وأهميته وفلسفته، ذاكرة أن البيت أكبر من مجرد حوائط أو هندسة، فهو واقع أخلاقى بحت نستقبل فيه جزءا من العالم.. نعرض من المقال ما يلى.
إيمانويل كوكسيا فيلسوفٌ من أصولٍ إيطالية، مُختص فى الفلسفة القروسطية، اشتهر بأعماله التى تتناول قضايا وموضوعاتٍ مبتكَرة، منها: «الحياة الحساسة» ــ 2010، و«حياة النبات» ــ 2016، «تحولات» ــ 2020، وآخرها «فلسفة البيت.. الحيز المنزلى والسعادة» ــ 2022. فى ما يلى ترجمة فقرات من كتابه الأخير حول البيت وأهميته وفلسفته.
«الحياة التى تُحاول أن تتطابقَ مع الفضاء المدينى أو الحضرى، وأن تسكنَه وتُقيمَ فيه، يكون الموتُ هو قَدَرها: ساكن المدينة الحقيقى والمُطَلق هو الشخص الذى يكون من غير مأوى، المُتشرد، الحياة الهامشية وغير المحصَنة، والتى هى بالتعريف مشرَعة على الموت».
وإنه لمِن المألوف أنه بواسطة البيت، وبواسطته دائما وأبدا، يُمكننا أن نكون فى المدينة: سواء تعلق الأمر بباريس أم ببرلين، بطوكيو أم بنيويورك، استطعتُ أن أسكنَ المُدن التى عشتُ فيها دوما بفضل غرف النوم والمطابخ، والكراسى والمكاتب، والخزائن، وأحواض الاستحمام ومُرسلات الأشعة.
الأمر لا يتعلق بمشكلة مكانية. أن تسكنَ لا يعنى أن تكون مُحاطا بأشياء، ولا أن تكون لك حصةٌ من الفضاء الأرضى لتشغله؛ فالأمر يعنى نسْجَ علاقةٍ قوية ومكثفة مع بعض الأشياء ومع بعض الأشخاص إلى حد جعْلِ سعادتنا وأنفاسنا غير مُنفصلَتَيْن. البيت هو قوةٌ تُغيِر نمطَ وجودِنا وكلَ ما يدور فى دائرته الساحرة والغامضة. للهندسة أو للبيولوجيا شأنٌ قليلٌ فى هذا السياق؛ وبكل تأكيد، فإننا حين نبنى بيوتا لا يكون ذلك من أجل حماية أنفسنا من سوء الأحوال الجوية، ولا من أجل أن نُوفِقَ بين الحيز المكانى والنظام الخاص بالجينيالوجيا أو ذوقنا الجمالى. كل بيت هو واقعٌ أخلاقيٌ بحت: نبنى البيوت لاستقبال، وبشكلٍ حميميٍ، جزءٍ من العالَم ــ مؤلَف من أشياء، وأشخاص، وحيوانات، ونباتات، ومناخات، وأحداث، وصُوَرٍ وذكريات ــ يجعل سعادتنا نفسَها مُمُكنة.
من ناحيةٍ ثانية، فإن هذا الوجود نفسه، لمُمارَسةٍ تقضى ببناء بيوت، يجعل من البديهى ألا تُختزل مسألة الأخلاق ــ نظرية السعادة ــ فى مجموعة تعاليم ومبادئ متعلقة بمواقفنا السيكولوجية، أو فى قواعد ضبط المشاعر الطيبة، وفى الانتباه، أكثر من أن تكون شكلا من أشكال النظافة النفسية.
هذه المُمارسة ما هى إلا نظامٌ مادى يتضمن أشياء وشخصيات، واقتصادا يمزج الأشياء، والتأثيرات، ويمزجنا نحن والآخرين ضمن الحد الأدنى من الوحدة المكانية لما نسميه الرعاية، بأوسع معانيها ــ البيت. السعادة ليست شعورا، ولا تجربة ذاتية خالصة. إنها الانسجام الاعتباطى والسريع الزوال الذى يُمسِكُ بالأشياء والناس لفترةٍ من الوقت، فى علاقةٍ فيزيقية وروحية حميمة.
لكنْ، وعلى الرغم من ذلك، كانت الفلسفة على الدوام تُعير أهمية قليلة للبيت. ولما كانت مسلوبة بحُلمٍ، مُقترن منذ قرون بالهوية الذكورية، ومُتمثِل بالتألُق فى المُجتمع، وبأن يكون لها السلطة والتأثير فى المدينة، نسيت الفلسفةُ المجالَ المنزلى على الرغم من الروابط التى تربطها به أكثر من ارتباطها بأى مدينةٍ فى العالَم.
هكذا، وبعد الأطروحات اليونانية الرئيسة الأولى حول الاقتصاد، النظام وحُكم البيت، الذى لم يكُن لتأثيره مثيلٌ، طَرحتِ الفلسفةُ المجالَ المنزلى من أُفقِ اهتماماتها. وهذا الإهمال بعيدٌ من أن يكون بريئا: فبسببه، أصبح المنزلُ مكانا اختبأت فيه الأضرار، والظلامات، واللا عدالة واللا مساواة، وغَدَت منسيَة، وأصبح يُعاد إنتاجُها بطريقةٍ لا شعورية وميكانيكية على مدى قرونٍ من الزمن. وإنه لفى داخل المنزل ومن خلاله مثلا، كانت اللا مساواة بين الجنسَيْن تُنتَج وتُثبَت وتُبَرَر. فمن خلال البيت الحديث ــ كمكانٍ لا يُمكن إلا فى بعض الحالات الاستثنائية القليلة أن يُقيمَ فيه غيرُ البشر ــ تأسَس وتدعَم التعارُضُ المُطلق بين البشرى وغير البشرى، بين المدينة والغابة، بين «المُتحضِر» والمتوحِش.
نسيان البيت كان وسيلةَ الفلسفة لكى تنسى نفسها هى. هذا الديكور المَخفى، كان فى الواقع الحاضنَ لقسمٍ كبيرٍ من الأفكار التى غذَت الكوكب وتاريخه. ففى هذا الفضاء ذى الهندسة المتغيرة، غير المُماثِل لنفسه حتى فى قلبِ مدينةٍ بعَينها، يصير الجسدُ كلمة.

خدعة ساحرة للفلسفة
يتعلق أمرُ نسيان البيت، بالنسبة إلى الفلسفة، بجعْل نفسها غير سعيدة، وبجعْل السعادة مسألة غير مفكَر فيها، وذلك بإخضاعها للمدينة والسياسة. بإخضاع المنزل لسُلط الأنساب والملكية، أَجبرته الفلسفةُ على الانكماش إلى حد اندماجه مع الجسم التشريحى، وعلى أن يُبعِدَ خارج أسواره، فى المدينة، كلَ ما يتعلق بالسعادة. وإذا كانت السعادةُ قد أصبحت عرضَ ظلال، فذلك لأنها بانقطاعها عن البُعد المنزلى تحديدا ــ حيث لم يعُد هناك من مكانٍ لها ــ ادعت أنها أصبحت فعلا سياسيا، وواقعا مدينيا خالصا. وبخلاف ذلك، فإن المدينة الحديثة ليست سوى ابتكار غير عادى لمجموعة مُتبايِنة من الأمكنة، والتقنيات، والأجهزة القائمة على أساس التعارُض مع النظام المنزلى بهدف إنتاج الحرية والسعادة اللتَين لم يعُد بالإمكان توليدهما فى الحيز المنزلى. ففى المدينة، ومن خلال العمل والاستهلاك والتنوير والثقافة أو الترفيه البسيط، أصبح فى وسعنا تجاوُز الحالة الغريبة من الإهمال المُتجنِس أو غير المفكَر به، حيث الأشياء لا تتغير بسبب أن نظاما «بيولوجيا» مُفترَضا أو ضرورة لا يُمكن التهوين من شأنها، قد أمليا ذلك. على مدى قرونٍ خَلت، العالَم الذى كان يُمكن أن نكون فيه على قَدم المساواة مع الآخرين ــ أقله على الورق ــ كان بالكاد قد بدأ عندما أغلقنا خلفنا باب المنزل. مدارس، صالات سينما، مسارح، مطاعم، بارات، متاحف، ملاهٍ ليلية، تجارة، حدائق عامة، طرقات، وحتى برلمانات أيضا، كنائس، معابد يهودية (كِنيس)، جوامع: كان العالَم يخوض غمار تجاربه فعليا خارج المنزل؛ وإنه لخارج المنزل بات العالَم مسكونا بوجوهٍ وأشياءٍ وأفكارٍ مكثفة جدا وأكبر من أن تستوعبها المساحة المُغلَقة للغُرف والمطابخ.
من أفلاطون إلى هوبز، ومن روسو إلى رولز، كانت المدينة الحديثة خدعة ساحرة للفلسفة: كانت خطأ فلسفيا بصريا، حُلما فى الهواء الطلق مصنوعا من حرية ومن أوهامٍ جماعية تمثَلت وظيفتها الأساسية فى جعْلِ البيت نسيا مَنسيا، واختزاله قدر الإمكان إلى مجرد سقيفة تُخزَن الأشياءُ فيها لكى يتسنى لاحقا نسيانها من دون شعورٍ بالذنب.
لم تكُن الفلسفة وحدها هى التى تقوم بهذه المهمة؛ فلطالما كان البيتُ موضوعَ إهمالٍ نظري؛ كما لو أنه تحوَل بإرادته الذاتية إلى آلةٍ غريبة يترتب عليها استقبال كل ما لا يُمكن الكلام عليه علانية، وما نكون بحاجة إلى نسيانه. لقرونٍ خلت، كان البيت «بقايا»: إنه ما تبقى بعد انتهاء العرض، مجموعة الأشياء كلها التى لم ننجح فى تقاسمها مع الآخرين.
بخلاف المُدن، فإن البيوت التى تؤلِف جسدَها هى أمكنةٌ من النادر أن نتقاسمَ تاريخها فى العَلن: باستثناء حالاتٍ نادرة، من المستحيل أن تكون لدينا فكرةٌ واضحة عن الذى أقام فى هذه المساحة أو تلك، وحول الطريقة التى تم تأثيث البيوت من خلالها على مدى العقود، أو حول أى أحداثٍ كانت هذه البيوت مسرحا لها. وحتى هنا، حيث تتواجد الذاكرة، فإنه لم يتم تشاركها، كما هو الحال مع ذاكرة المدينة».

النص الأصلي

التعليقات