عن «الصدق الأخلاقي» و«الصدق الفني» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن «الصدق الأخلاقي» و«الصدق الفني»

نشر فى : السبت 30 مارس 2024 - 5:35 م | آخر تحديث : السبت 30 مارس 2024 - 5:35 م
يبدو مفهوم «الصدق الفنى» ملتبسًا عند كثيرين من قراء الفن والأدب، فيخلطون خلطًا واضحًا بينه وبين «الصدق» بالمعنى الأخلاقى، ويلتمسون دومًا مطابقة حتمية بين ما يكتبه الكاتب أو الفنان، وبين مرجعية تمثّل ما وقع فعلًا.
لنضع بعض النقاط فوق الحروف، ولنبدأ الحكاية بحكاية.
تخيل أن حادثةً وقعت فى الطريق العام، سيارة صدمت «موتوسيكل»، فجاءت الشرطة لكى تحقق، وحرص رجلها على أن يحدد بدقة فى محضره هيئة واتجاه كل مركبة، وطبيعة الأضرار المنظورة، وحال المصابين، وبعض أقوالهم المبدئية، ثم انتقل الجميع إلى قسم الشرطة، ومعهم بعض الشهود.
كل سؤال لأحد الشهود يستهدف أمرًا واحدًا فقط، وهو التحرّى عن الصدق الأخلاقى، أى سرد ما وقع فعلًا، بكل تفصيلاته، بما فى ذلك الوقت بالدقيقة، وعلى ضوء هذه الأقوال، ستتحدد المسئولية القانونية عن الحادثة، وستتحدد أيضًا العقوبة على المخطئ.
نقيض «الصدق الأخلاقى» بهذا المعنى هو «الكذب»، وهو أمر مرفوض أخلاقيًا ودينيًا، ويعاقب عليه القانون، لو كان كذبًا متعمدًا، فأى معلومات خاطئة متعمدة لأحد الشهود توصف بأنها «شهادة زور»، ما يستلزم المحاكمة والعقاب.
«الصدق الأخلاقى» إذن يعنى مطابقة حرفية للواقع، والتصوير الدقيق لما حدث فعلًا، كوسيلة لمعرفة الحقائق من الأكاذيب، وبأقل قدر من التدخل الذاتى، بينما «الصدق الفنى» حكاية مختلفة تمامًا، لأنه يعتمد على رؤية الفنان المنحازة، فينتقى من الوقائع ما يشاء، ليستخدمها فى بناء يجمع بين الواقع والخيال، ويؤلف بين أشياء لا تأتلف فى الواقع، ويبتكر من الأقنعة والحيل السردية ما يشاء.
هو أيضًا لا يستهدف «الحقيقة الموضوعية» بالمرة، وإنما يخترع «حقيقة موازية» لها، ناتجة عن هذا المزيج المعقد بين الواقع والخيال، وبين مادة الكتابة والفن، وذات الفنان، بكل ما فيها من موهبة واكتساب.
ما تراه محاضر الشرطة تزويرًا وكذبًا، يتحول فى الكتابة إلى «خيال فنى»، وما يراد للشهادة من مطابقة كاملة للواقع الذى كان، يتحول فى الفن إلى حرية فى الاختيار والترك، والإضافة والحذف، والتضخيم والتصغير، والمبالغة والنقل، والإسهاب والتكثيف، والتقديم والتأخير، وغير ذلك من حيل الأدب والفن.
ثمة فن كامل مثلًا يقوم على المبالغة الشكلية، وهو فن السينما، فالواقع أن البشر ليسوا بهذا الطول الذى يظهرون عليه على الشاشة الكبيرة، ومع ذلك نتقبل هذا الأمر، وقد نندمج مع الفيلم، فنبكى ونضحك، مع أن ما نراه لا علاقة له بأحجام البشر فى الواقع.
وفى مدارس فنية معتبرة، مثل «السيريالية» و«التكعييبة»، تنهدم تمامًا حكاية الصدق بالمعنى الأخلاقى، ليحل محلها الصدق بالمعنى الفنى، فالمدرسة الأولى تحاول أن ترسم عالم الأحلام، بكل رموزه المفارقة للمنطق التقليدى، وتترجم عالم اللا شعور المتحرر من كل القيود، والمدرسة الثانية تكسر المنظور التقليدى، بل تستخدم منظورًا مركبًا ومتعددًا فى اللوحة الواحدة، فيرسم بيكاسو مثلًا امرأة متعددة الوجوه.
لا معنى إذن للمطابقة التماسًا للصدق الأخلاقى، كأن نقول مثلًا إن بيكاسو لا يعرف كيف يرسم المرأة؟! فالحقيقة أنه فنان بارع، ولديه لوحات لنسوة عاديات بوجه واحد، وبتفصيلات واقعية، لكنه أراد أن يتجاوز ذلك، فظهرت تنويعة أخرى على لحن «الصدق الفنى».
«الصدق الفنى» بهذا المعنى، الذى يتضمن الانتقاء، وحضور الذات المنحازة، والاختلاف عن الأصل، بل وتحريفه، كما نرى فى لوحات بيكاسو، هو نقيض الصدق بالمعنى الأخلاقى، بل إنك لو طبقت معيار «الصدق الأخلاقى» لقلت فعلًا إن «الفن نوع من الكذب»، وهو أمر صحيح تمامًا، لكنه كذب جميل وخلاّق ومبدع، يجعلنا نرى الواقع بشكل أعمق، ومن زاوية مختلفة، ويتيح لنا طرقًا مدهشة للتعبير عنه، لأننا نرى الواقع عندئذ عبر بصيرة الفنان وموهبته.
أنت تخطىء لو تصورت أن الواقع المكتوب يظل كما هو عندما تكتبه موهبة عظيمة، مثل نجيب محفوظ، حتى ما يُقال عن «الواقعية» فى الفن والأدب، ليس إلا «إيهام بالواقعية».
ثلاثية محفوظ ليست هى الواقع الموضوعى أبدًا، لكنها «الواقع الانتقائى من خلال رؤية محفوظ الذاتية وفى ضوء معنى الثلاثية»، ولذلك اختار نموذج أمينة بالذات، لكى يترجم فنيًا من خلاله رؤيته «الذاتية« عن المرأة وقتها، ولم يختر نموذج امرأة معاصرة أكثر استقلالية وتحررا، هو نموذج باحثة البادية ملك حفنى ناصف، لأنها تناقض رؤيتة الذاتية والفنية.
ما كتبه محفوظ ليس دراسة اجتماعية أو تاريخية موضوعية أبدًا، فهذا شأن علماء الاجتماع، وعلماء التاريخ، وإذا كانت «الثلاثية« تبدو كذلك، فهذا بسبب قوة الإيهام، وبراعة الكاتب فى امتلاك مادته وموضوعه، ولكنه لم يستهدف هذه المادة الإجتماعية لذاتها، وانما «استخدمها« ليصنع تمثاله الخاص، ولكى يبنى مجتمعا موازيا مؤتلفا، بقوانين الفن، وبألعاب السرد.
وبسبب هذا «الصدق الفني«، والذى ينتهى كما ذكرنا إلى «حقيقة موازية«، فإن عالم الإجتماع، والمؤرخ، يستفيد حقا من هذه الرؤية، وتلك البصيرة، ويستفيد كذلك من تلك الشخصيات، التى تُستلهم أحيانا من عدة شخصيات.
المسح الاجتماعى والتاريخى يستهدف الحصر والرصد لما وقع فعلًا، والفن الروائى يبدأ مما وقع، لينطلق إلى ما يمكن أن يقع، كما أنه يعكس المجتمع فى فرد، ويرى الفرد من خلال المجتمع، مضافًا إلى ذلك ذات وموهبة الكاتب نفسه، فى مزيج شديد التعقيد والتركيب.
لا أنسى أننا كنا ونحن أطفال نطبق حكاية «الصدق الأخلاقي« هذه على الأفلام التى نشاهدها، فنعتقد أن فريد شوقى قتل فعلًا فى نهاية فيلم «حميدو«، ثم نندهش كثيرًا عندما نراه بعد ذلك فى فيلم «رصيف نمرة 5«!
لم نكن نستطيع أن نفرق بين «الإيهام« و«الحقيقة«، ولم نكن نعرف أن التمثيل هو «الكذب بصدق«، وأنها أدوار متنوعة يجب أن تؤدى بإتقان حتى نصدقها.
كبرنا وعرفنا وتعلّمنا، ولكن العجيب حقا أن كثيرين من «الكبار«، لا يعرفون حتى الآن الفارق بين الفن والواقع، وبين «الصدق الأخلاقي«، و«الصدق الفني«!
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات