في ذكرى ميلاد رائد الكتابة الكابوسية.. كافكا أشهر من كتب عن عزلة الإنسان الحديث - بوابة الشروق
الأحد 6 يوليه 2025 3:00 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

في ذكرى ميلاد رائد الكتابة الكابوسية.. كافكا أشهر من كتب عن عزلة الإنسان الحديث

محمود عماد
نشر في: الخميس 3 يوليه 2025 - 8:30 م | آخر تحديث: الخميس 3 يوليه 2025 - 8:30 م

«عندما استيقظ "غريغور سامسا" من نومه ذات صباح، عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحول في سريره إلى حشرة عملاقة!».. بهذه الافتتاحية الصادمة شديدة التمييز بدأ فرانز كافكا روايته الأشهر "التحول"، كأنما كتب بها قدره الأدبي والشخصي معا.

لم يكن سامسا وحده من تحول؛ كافكا نفسه ظل يتحول طوال حياته من ابن غريب في بيت متسلط، إلى موظف في آلة بيروقراطية خانقة، إلى كاتب لم يرغب أحد في قراءته، قبل أن يصير نبي من أنبياء الأدب الحديث، وصاحب واحدة من أكثر البصمات تأثيرا في أدب القرن العشرين.

في الثالث من يوليو عام 1883 ولد كافكا، وفي ذكرى ميلاده يبقى كافكا حاضرا، لا بوصفه كاتبا فحسب، بل كحالة وجودية كاملة، تشبهنا أكثر مما نتصور.

نشأ فرانز كافكا في مدينة براغ حين كانت جزءا من الإمبراطورية النمساوية-المجرية. وُلد لأب يهودي من أصول ريفية صارمة، وأم مثقفة من الطبقة الوسطى.

كان يتحدث الألمانية، لغة التعليم والنخبة، في بلد يغلب عليه الطابع التشيكي، وسط هوية دينية يهودية لا يشعر بالانتماء التام لها. ثلاث دوائر تحاصره، دون أن ينتمي بالكامل لأي منها.

الهوية عند كافكا ليست سؤالا فلسفيا، بل جرحا يوميا. وهو ما انعكس على أعماله لاحقا، إذ تكاد تكون جميع شخصياته مُبعدة، منفية، لا تجد اعترافا، ولا حقا في التفسير.

إن أكثر ما أثر في كافكا الإسنان والكاتب معا كافكا كانت علاقته المعقدة مع والده، هيرمان كافكا. ولقد كتب كافكا رسالته الشهيرة إلر والده بعنوان "رسالة إلى الأب"، والتي حاول فيها شرح تلك العلاقة شديدة التعقيد بينه وبين والده، واتهم فيها والده بالتسلط والإساءة العاطفية.

كان الأب هو الصورة الأولى للسلطة التي لا تُناقش، التي تحكم بلا تفسير. لذلك لا عجب أن تظهر هذه السلطة في رواياته بشكل غامض، غير مرئي أحيانا، لكنها تسيطر على المصائر بلا رحمة.

لم يكن كافكا أديبا متفرغا. طوال حياته، كان يعمل في شركة تأمين ضد حوادث العمال. وظيفة بيروقراطية مرهقة، يكتب بعدها ليلا، في ضوء خافت، بين نوبات مرض السل والقلق والأرق. ورغم قصر حياته (مات في سن 40)، ترك خلفه إرثا أدبيا كثيفا، لم يكن يريد نشره، بل أوصى صديقه ماكس برود بحرقه.

لحسن الحظ، لم يستجب برود، فنُشرت رواياته الثلاث غير المكتملة«المحاكمة، القلعة، أمريكا». لم يُتم كافكا أي رواية، لكن أعماله المبتورة صارت مكتملة في وجدان قرائه.

يصعب تصنيف كافكا كتابيا فهو ليس واقعيا، ولا رمزيا، ولا سرياليا خالصا، لكنه كل هؤلاء معا. عالمه مليء بالشخصيات التي لا تجد تفسيرا لما يحدث لها.

البيروقراطية عنده ليست مكانا، بل كيانا وجوديا يحاصر الفرد. العدالة مستحيلة. الهوية هشة. الكابوس لا يحدث ليلا فقط، بل طوال اليوم.

ما يفعله كافكا هو إعادة كتابة أسئلة الوجود، بلغة خافتة، باردة، تقطع أكثر من السكين.

لم يعد اسم كافكا مجرد اسم كاتب، بل أصبح صفة، وهي "الكافكاوية"، والتي تُستخدم لوصف كل ما هو عبثي، بيروقراطي، خانق، غير مفهوم.

حين تعجز عن الوصول لحقك وسط أوراق لا تنتهي، فأنت في عالم كافكا. حين تعاقب دون أن تُدان، فأنت في عالم كافكا. حين تصير الحياة نفسها محكمة غامضة، فأنت في قلب الكافكوية.

وقد استلهمه الكتّاب والفلاسفة، من كامو وسارتر، إلى هارولد بلوم وميلان كونديرا. وحتى السينما تأثرت به بعمق، كما في أفلام أورسون ويلز، و"Brazil"، و"The Trial"، وحتى في مشاهد بيروقراطية تاركوفسكي وهانكه.

كتب كافكا رسائل طويلة لحبيباته، لا سيما "ميلينا يسنسكا"، تلك المعروفة "رسائل إلى ميلينا". كتب أيضا عن العزلة، عن الجسد، عن الموت، عن الرغبة التي تخنق أكثر مما تحرر.

وفي عام 1924، توفي في مصحة بالنمسا، بسبب السل الذي أنهك جسده مثلما أنهك القلق روحه.

لكن الغريب أن ما تركه من كلمات ظل يشتد ويتجذر بعد موته. كأن العالم لم يكن جاهزا لقراءته في حياته، ثم صار لا يراه إلا من خلاله.

بعد أكثر من قرن على رحيله، لا يزال كافكا حاضرا في كل غرفة تحقيق، في كل دائرة حكومية، في كل محكمة بدون محام، لكنه أيضا حاضر في قلوب من يشعرون باللاانتماء، والقلق، والذنب الوجودي، والبحث عن مخرج في عالم بلا خريطة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك