جذب استخدام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرسوم الجمركية لتصعيد الحرب التجارية مع الصين اهتماما عالميا، ودفع بكين إلى اتخاذ إجراءات انتقامية مضادة. ولكن إلى جانب الرسوم الجمركية، استخدمت بكين سلاحا اقتصاديا آخر في ترسانتها والذي يمكن أن يكون له تأثير أقوى، وهو قدرتها على التحكم في الإمدادات العالمية من المعادن النادرة.
وقال الدكتور ويليام ماتيوز، زميل الأبحاث البارز ببرنامج آسيا والمحيط الهادئ بالمعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس)، في تحليل نشره المعهد، إنه من خلال تقييد الوصول إلى هذه المعادن الحيوية، تمتلك الصين القدرة على إلحاق أضرار جسيمة بصناعة الدفاع الأمريكية، وتقويض الطموحات الأوسع لدى إدارة ترامب لإعادة التصنيع. وفي نهاية المطاف، قد يمنح هذا بكين أفضلية استراتيجية حاسمة في التنافس الأمريكي الصيني طويل المدى على التفوق العسكري والتكنولوجي، ويعزز تقدمها الحالي في مجال التصنيع.
وعلى الرغم من دعوات الرئيس دونالد ترامب المتكررة للرئيس شي جين بينج للتواصل مع واشنطن من أجل إبرام اتفاق لتهدئة حربهما التجارية، تعهدت بكين "بالقتال حتى النهاية". وردا على الرسوم الجمركية الأمريكية، فرضت الصين قيودا على صادرات سبعة من المعادن الأرضية النادرة، إلى جانب منتجات أخرى، من بينها المغناطيسات الدائمة.
وتنتج الصين الغالبية العظمى من المعادن الأرضية النادرة في العالم، وهي مجموعة من 17 عنصرا مهمة للغاية للتكنولوجيا الحديثة، من المغناطيسات إلى الليزر وشاشات "ال سي دي".
وتسيطر بكين على نحو 70% من عمليات استخراج المعادن النادرة و90% من عمليات معالجتها عالميا. وفي المقابل، بينما تعد الولايات المتحدة ثاني أكبر منتج لها وتمتلك سابع أكبر احتياطيات، إلا أن إنتاجها أقل كثيرا من إنتاج الصين، وتعتمد على بكين في الواردات. وقد استثنت واشنطن المعادن الحيوية من رسومها الجمركية المتبادلة العالمية، وهو ما يعكس أهميتها للمصالح الأمريكية.
وقال ماتيوز، الخبير في العلاقات الخارجية للصين والمتخصص في الآثار الجيوسياسية للصين كقوة صاعدة، إن هذا يمنح الصين سيطرة خانقة على مدخلات سلاسل التوريد التي تعتبر مهمة للغاية للهيمنة الأمريكية، من أشباه الموصلات إلى الطائرات. على سبيل المثال، هناك حاجة إلى معدن الديسبروسيوم لعزل المحركات الكهربائية المستخدمة في مقاتلات الجيل الخامس من طراز "اف- 35" التابعة لسلاح الجو الأمريكي، بالإضافة إلى تطبيقات في الروبوتات والطائرات المسيرة والمركبات الكهربائية وشاشات اللمس. ومن الأمثلة المهمة الأخرى معدن الإيتريوم، وهو عنصر أساسي في محركات الطائرات النفاثة وأجهزة الليزر الدقيقة والرادارات عالية التردد. وهذان العنصران من بين المعادن الأرضية النادرة السبعة التي تفرض بكين قيودا عليها.
وتستغل الصين دورها الأساسي في سلاسل التوريد التي سعت الولايات المتحدة إلى استبعادها منها - وأبرزها أشباه الموصلات. وتوجه هذه الخطوة رسالة مفادها أنه في حين أن الولايات المتحدة قد تحاول منع الصين من الحصول على أحدث الرقائق الإلكترونية وغيرها من التكنولوجيات المتطورة، يمكن للصين أن تخطو خطوة أبعد من خلال قطع سلسلة التوريد من بدايتها.
وقد أعلن المصدرون الصينيون للمعادن النادرة التي فرضت عليها قيود عن وقف شحناتهم بانتظار الحصول على تراخيص من وزارة التجارة الصينية، وهو نظام يمنح بكين القدرة على تنظيم تدفق المعادن في حال اندلاع حرب تجارية ممتدة.
ويرى ماتيوز أنه على المدى الطويل، قد تحاول الولايات المتحدة بناء عمليات استخراج ومعالجة خاصة بها، لكن هذا سيستغرق وقتا وله تكلفة مالية وبيئية باهظة. وينطبق الأمر نفسه على الدول الأخرى التي قد تسعى الولايات المتحدة إلى عقد شراكة معها.
ويقول ماتيوز إن القيود المفروضة على المعادن قد تقوض طموحات إدارة ترامب الواسعة لضمان تفوق الولايات المتحدة على الصين. وتشمل هذه الطموحات عودة التصنيع إلى الولايات المتحدة من خلال برنامج ضخم لإعادة التصنيع والالتزام بالقيادة العالمية في التكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي واستراتيجية لردع العدوان الصيني ضد تايوان من خلال قوة عسكرية ساحقة ومركزة إقليميا ومدعومة بميزانية دفاعية قدرها تريليون دولار. وستكون إعادة التصنيع والريادة في التكنولوجيات الناشئة ضرورية إذا أرادت الولايات المتحدة ردع الصين عسكريا في العقود القادمة. كما قال ماتيوز إن تقييد الوصول إلى المعادن الأرضية النادرة في الصين يعرض هذه الطموحات للخطر. وقد تتسبب القيود طويلة الأمد في تأثيرات بعيدة المدى على القاعدة الصناعية الدفاعية لواشنطن وسلاسل التوريد العالمية للمعدات الآلية والرقائق التي تعتمد عليها، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وغيره من التكنولوجيات المستخدمة في التطبيقات العسكرية المتقدمة.
وتواجه الولايات المتحدة أيضا خطر خسارة السباق في المجالات التنافسية للدفاع والتكنولوجيا الناشئة. وفي بعض المجالات، مثل تكنولوجيا الصواريخ الفرط صوتية، تعتبر الصين أكثر تقدما بالفعل. وفي حالات أخرى، قد يكون تقييد الوصول إلى المعادن أمرا في غاية الخطورة.
وهناك مجال رئيسي للمنافسة وهو مجال الطائرات المقاتلة. وقد كشف الرئيس ترامب مؤخرا عن التزامه بتطوير الطائرة "اف-47"، وهي طائرة جديدة من "الجيل السادس" تتميز بقدرات متقدمة مصممة لتحل محل مقاتلات سلاح الجو الأمريكي الحالية. في غضون ذلك، تمت مشاهدة نموذجين أوليين من طائرتين صينيتن متقدمتين هما "جيه-36 وجيه-50" في رحلات تجريبية متكررة، وهو ما يشير إلى أن الصين تطور طائرات متقدمة مماثلة.
وأشار ماتيوز إلى أن نقص المعادن الحيوية قد يضمن فوز الصين في سباق نشر مقاتلة من "الجيل السادس"، وهو ما سيعد إنجازا كبيرا. وستتولى الصين القيادة في مجال مرادف للهيمنة العسكرية الأمريكية، وهو مجال قد يكون حاسما على المدى الطويل.
وتعد الريادة التكنولوجية عاملا مهما. ولكن في حال اندلاع صراع أمريكي صيني طويل الأمد، ستكون القدرة على الحفاظ على قوة قتالية كافية أمرا حاسما. وهنا تكمن أهمية القدرة الصناعية- ومن بينها الماكينات الآلية المتطورة اللازمة لإنتاج الأسلحة التي تعتمد على المعادن الأرضية النادرة.
ويرى ماتيوز أنه حتى بدون تقييد صادرات المعادن، تمتلك الصين بالفعل أفضلية حاسمة في القدرة التصنيعية. وأعرب الخبراء الاستراتيجيون في واشنطن عن مخاوفهم بشأن الفجوة الكبيرة في الشحن، حيث تقدر الاستخبارات الأمريكية أن قدرة الصين في مجال إنتاج الشحن تزيد عن 200 ضعف قدرة الولايات المتحدة.
وفي حال اندلاع حرب محتملة، يمكن لبكين تجديد مخزوناتها من الذخائر أسرع كثيرا من واشنطن. وفي الوقت نفسه، يقترب معدل إنتاج الطائرات العسكرية في الصين من اللحاق بسرعة بالولايات المتحدة. وتخاطر واشنطن الآن بمواجهة "فجوة في الطائرات المقاتلة" حيث تتفوق بكين عليها في إنتاج الطائرات المتطورة. وتجعل القيود المفروضة على المعادن النادرة سد هذه الفجوات أكثر صعوبة بالنسبة لواشنطن.
ويرى ماتيوز أن الحل القابل للتنفيذ بالنسبة للولايات المتحدة لمواجهة أفضلية الصين التصنيعية هو الشراكة المنهجية مع الحلفاء. ومع ذلك، يواجه هذا الحل عقبتين رئيسيتين. الأولى أن الصين لديها القدرة على تصميم قيودها التصديرية للتأثير على دول محددة، مما يمنح بكين أداة لردع تلك الدول عن مساعدة الولايات المتحدة.
والعقبة الثانية، هي أن استخدام إدارة ترامب للرسوم الجمركية ضد الأصدقاء والأعداء على حد سواء أدى إلى توتر علاقاتها مع حلفائها التقليديين وتقويض الثقة. وقد يضعف هذا من قدرة واشنطن على إقناع حلفائها بالتوافق مع استراتيجية لمواجهة الصين ترتكز على التفوق العسكري الأمريكي، وخاصة خارج منطقة المحيطين الهندي والهادئ حيث لا يواجه الحلفاء تهديدا عسكريا مباشرا من بكين.
وأشار ماتيوز إلى أنه إذا استمرت الحرب التجارية وبدأ تأثير قيود تصدير المعادن الأرضية النادرة يظهر على الولايات المتحدة، فمن غير الواضح كيف سترد واشنطن. ونظرا لتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، فهناك خطر من أن تبدأ واشنطن في اعتبار أن القيود تشكل تهديدا وجوديا لتفوقها العسكري وتسعى إلى مزيد من التصعيد. وفي حين أنه من غير المرجح أن تتسبب الحرب التجارية في حد ذاتها في حرب عسكرية مباشرة، فإنها قد تزيد من الرغبة في المخاطرة لدى الجانبين، خاصة في ظل التوترات المتزايدة بين الصين وتايوان.
وسيكون من مصلحة واشنطن وبكين على المدى الطويل أن تعملا على خفض التصعيد. ولا ينبغي أن تتوقع الولايات المتحدة أن تجلس الصين إلى طاولة المفاوضات، ولكن عليها أن تسعى إلى حل دبلوماسي لتجنب إلحاق الضرر بقاعدتها الصناعية الدفاعية أو مصداقيتها كضامن للأمن في المحيط الهادئ.
واختتم ماتيوز تحليله بالقول إن دولا أخرى ستستفيد أيضا من خفض التصعيد ، حيث أن السعي إلى لعب دور الوساطة قد يكون جذابا للدول العالقة بين الولايات المتحدة والصين. مع ذلك، لن تكون هذه مهمة سهلة، مع تزايد الضغوط من القوتين العظميين لكي تختار الدول واحدة منهما.