جمال الغيطانى استاء من حصول ناشر إماراتى على أعمال محفوظ وطلب من إبراهيم المعلم التدخل فى الأمر وهو ما تم فحصل محفوظ على شيك المليون جنيه الشهير
الحرافيش والثلاثية وثرثرة فوق النيل وأصداء السيرة من أقرب أعماله إلى قلبى
محفوظ كان شديد التواضع ونموذجًا إنسانيًّا مبهرًا لدرجة لا يمكن وصفها
حرص محفوظ على التنوع والتطور فى مواكبة أساليب الكتابة العالمية
الأديب الراحل حرص على زيارتى فى منزلى عقب إجراء عملية بالقلب
نحن أمام «مؤسس الرواية العربية الحديثة»، هكذا أكد الكاتب الروائى نعيم صبرى، بمناسبة ذكرى ميلاد أديب نوبل العالمى نجيب محفوظ، حيث تمسك صبرى بأن مراحل العمل الروائى قبل محفوظ كانت مجرد «إرهاصات»، وأنه قد جاء لينقل الإبداع من مرحلة الإطار التاريخى، إلى القالب الروائى الواقعى والسياسى والرمزى الفلسفى.
نعيم صبرى الذى كان أحد أبرز المقربين للأديب العالمى، يسرد فى حواره مع الشروق، العديد من المحطات الإبداعية والإنسانية الخاصة بالأديب الراحل، وتلك المراحل التى جمعته وعديد من المثقفين والأدباء بمحفوظ، والسمات المميزة لأدبه، وأهم وأبرز خصاله الأدبية والإنسانية.
وإلى نص الحوار:
< ما هى بداية علاقتك بأديب نوبل العالمى نجيب محفوظ؟
ــ بداية تعرفى على عالم نجيب محفوظ عندما كنت فى المرحلة الثانوية، وحينها كانت أول مرة أطالع فيها رائعته «الثلاثية»، وبعدها التقيت به فى المرة الأولى أوائل الثمانينيات، وتحديدا بالعام 1982، حينما كان يقوم بعقد ندوة أسبوعية كل يوم جمعة بكازينو قصر النيل، وكانت ندوة مفتوحة أتذكر وقائعها جيدا إلى الآن، وقد حضرت مع أصدقائى بعد تردد وخجل، لكننى فوجئت بمدى بساطة الأجواء، وكم الاستفادات فى الموضوع، حتى إننى داومت عليه طوال الوقت بعدها.
< كيف استقبلت خبر الاعتداء على نجيب محفوظ؟
ــ كنا ننتظر كعادتنا الجلسة الأسبوعية مع نجيب محفوظ، والتى كانت تجرى فى موعد معتاد فى الخامسة مساء ولكنه تأخر، قمنا بمهاتفته تليفونيا، لنعرف حينها أنه تعرض للحادث، وتم نقله إلى مستشفى الشرطة، ليمكث بعدها فى المستشفى لمدة شهرين قبل أن يذهب إلى منزله، وقد بدأ الأطباء تدريجيا فى السماح له بالخروج منعا للدخول فى أى من حالات الاكتئاب التى تعقب فترات التقيد فى المنزل أو المستشفى عقب الحوادث والجراحات الكبرى.
حينها كنا نتابع كل ما يتعلق بالأستاذ نجيب محفوظ، وتحديدا كان الدكتور يحيى الرخاوى أستاذ الطب النفسى يبدى اهتماما فائقا بالأستاذ، فقام بترتيب لقاءات مع نجيب محفوظ فى الفنادق لكونها أماكن مغلقة بها قدر من تشديد الإجراءات الأمنية، ومن بعد هذا الحادث لم يكن فى استطاعته ان يعود للجلوس فى المقاهى أو الأماكن المفتوحة.
حرص الدكتور يحيى الرخاوى على أن يكون لنجيب محفوظ جولات يومية على مدى الأسبوع إلى: سوفيتيل المعادى، ماريوت الزمالك نوفوتيل المطار وذلك لتحسين معنوياته، وكان يخصص الرخاوى يوم الجمعة للعشاء مع محفوظ فى المنيل، أما يوم السبت فلا يخرج وإنما يحرص على مقابلة الصحفيين، وعلى مدى الأسبوع كنا نتناوب على مرافقته خارج المنزل، شخصيا كنت أمر عليه يومى الأحد والأربعاء.
ولا أستطيع أن أنسى تلك الجلسات الخاصة التى كان يحضرها جمال الغيطانى، ويوسف القعيد وعبدالرحمن الأبنودى، يوم الثلاثاء فى مركب «فرح بوت»، كنا نلتقى يوميا حتى وفاته، كان الجميع حوله باستمرار.
وقد نشرت صورة بالفعل تجمعنا بأديب نوبل عقب حصوله على الجائزة بيوم واحد، وكان ذلك أثناء اللقاء الأسبوعى فى الموعد المعتاد لندوة الجمعة بكازينو قصر النيل، من الخامسة إلى الثامنة والنصف فى اليوم التالى لإعلان فوزه بجائزة نوبل وقد جاء الأستاذ فى موعده، وكان زحاما كبيرا لحضور عدد كبير من الرواد يفوق العدد المعتاد بمراحل.
< حدثنا عن «الشيك المليونى» لنشر أعمال نجيب محفوظ بدار الشروق؟
ــ كان هناك ناشر إماراتى اتفق على أنه يحصل على كل أعمال نجيب محفوظ بأقل من 100 ألف جنيه، حينما عرف جمال الغيطانى ذلك استاء للغاية، ناقشنا الأمر فى جلساتنا المتكررة، وحينها قرر الغيطانى التدخل وإجراء اتصالات مع الناشر الكبير إبراهيم المعلم، وأبلغه الغيطانى بضرورة التدخل فى الأمر، وأذكر أنه لم يمر أسبوع حتى أبدى المعلم استعداده للحصول على أعمال محفوظ بمقابل «مليون جنيه»، وبعدها تم تواصل مع الناشر الإماراتى وتفهم الرجل ذلك وانسحب بهدوء.
< ما هى الجوانب الإنسانية فى شخصية نجيب محفوظ؟
ــ مثلما كان نجيب محفوظ أديبا عظيما فقد كان إنسانا عظيما أيضا، كانت له خصال إنسانية مميزة للغاية. وعلى الرغم من هذا القدر من الجدية والتنظيم الشديد فى العمل الأدبى، فإنه ــ على الصعيد الشخصى ــ كان نموذجا على التواضع الشديد والبساطة والحكمة، وأية صفات حسنة يمكن أن تجدها فى إنسان يوما ما توافرت فى محفوظ، فعلى الرغم من تجاوز عمره الـ90 على سبيل المثال لم يكن يسلم على أحد إلا وقوفا، فى كل لحظة كان يثبت أنه نموذج إنسانى مبهر لدرجة لا يمكن وصفها.
< هل من الممكن أن تخبرنا عن أجواء زيارة نجيب محفوظ إلى منزلك؟
ــ زارنى أديب نوبل فى العام 1996، حينها كنت قد سافرت إلى أمريكا لإجراء جراحة فى القلب، ومع عودتى فاجأنى بالزيارة، فقد كان يعتاد الذهاب إلى مصر الجديدة يوم الإثنين، وقد كان منزلى فى مصر الجديدة، وكان قريبا من المنزل، وعلمت أنه اقترح على من كانوا معه حينها أن يكون اللقاء اليوم فى بيت نعيم، وحينها امتدت الزيارة من الساعة السادسة وحتى العاشرة، بدلا من أن تكون فى نوفيتيل المطار.
< كيف كانت تعليقات نجيب محفوظ عند مطالعة أعمالك؟
ــ كان نجيب محفوظ مهتما بالإطلاع على جميع أعمالى، كان يهتم بقراءتها قبل أن تصل إلى مرحلة النشر، لم يبد ملاحظات عديدة أبدا، وإنما أخبرنى ذات مرة بتعليق عن إحدى شخصيات رواية «شبرا» ووجدت أنه فى محله، حول تعديل رد فعل إحدى الشخصيات وأخدت بتلك الملاحظة بالفعل، ولا أنسى أنه اشترك فى عنوان أول رواية لى، حيث اخترت لها عنوان «أنواء الخريف»، واقترح أن أجعلها أمواج الخريف وهو ما وقع بالفعل.
< نشرت صورا تجمعك بمحفوظ أثناء قراءة مشتركة لبعض الأعمال، حدثنا عن ذلك؟
ــ حينما كنت ألمس اهتماما من نجيب محفوظ بالتعرف على مؤلف ما، كنت أقرؤه له على الفور، وأنا حريص على نشر صورى التى تجمعنى معه فى هذه الحالة، حيث كنت أقرأ له كتبا سياسية وأدبية ومذكرات مصطفى النحاس، محفوظ اهتم بشدة بحزب الوفد، كان يحب الإطلاع على مؤلفات جمال الغيطانى، وإبراهيم عبدالمجيد وخصوصا مؤلفه: لا أحد ينام فى إسكندرية.
كنت حريصا على أن أقرأ لنجيب محفوظ مختلف الأعمال الأدبية الجديدة، لمدة نصف ساعة أو ساعة، فكان العمل الواحد يستغرق مننا من 3 إلى 4 أشهر.
< كيف أثرت عليك العلاقة القوية التى جمعت بينك وبين أديب نوبل؟
ــ كان نجيب محفوظ يأخذ الأمور بجدية كاملة وتامة، فهو شخصية منظمة إلى أبعد الحدود، بالفعل حرص على أن يكون هناك التزام أدبى وعملى يومى وصارم، أدرك مبكرا أن تراكم الإنتاج الأدبى لن يأتى إلا عبر العمل المنتظم، وهو ما نجح فيه بالفعل، وعرفت نجيب محفوظ على مدى 25 عاما، كان شعاره فيهم الدأب الشديد والاستعانة بتنظيم مثالى لكل شئونه وأموره.
< ما هى أكثر الأعمال القريبة إلى نعيم صبرى من أعمال نجيب محفوظ؟
ــ بإعمال تسلسل زمنى لما قرأته، فيمكن أن نبدأ مع المرحلة الفرعونية: «كفاح طيبة» أحببتها للغاية لأنها تكشف كفاح مصر ضد الهكسوس وانتصار أحمس وهى رواية شيقة للغاية بالنسبة لى، كما أننى أفضل رواية خان الخليلى التى تعكس ظروف القاهرة فى الحرب العالمية الثانية، أيضا أرى «بداية ونهاية» رواية عظيمة.
وبدون أدنى شك فإننى أفضل «الثلاثية»، ورواية الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، وأصداء السيرة الذاتية، ولكن يمكن اعتبار رواية «الحرافيش» الأولى فى الترتيب، كل أعمال نجيب محفوظ عظيمة ولافتة، لكن هذه الروايات على وجه الخصوص، أشعر أنها عائلتى وقريبة منى للغاية.
ولا أتعامل مع نجيب محفوظ وأعماله باعتبارها مؤلفات عظيمة وحسب، وإنما أرى فيه «مؤسسا للرواية العربية الحديثة»، مرحلة ما قبل نجيب لم يكن هناك رواية عربية راسخة، وإنما مجرد إرهاصات.
لايمكن بالطبع إنكار أن توفيق الحكيم حاول أن يكون له بصماته فى الرواية كـ«عودة الروح»، ولكن مجهود الرئيسى أنصب على إبداعات المسرح، أيضا طه حسين كان له إسهامات فى الرواية ولكنها لم تكن مجاله الأصلى، إنما من أولى كامل تركيزه وإبداعاته للأدب والرواية هو نجيب محفوظ الذى أسهم بشكل كبير فى تطور الرواية ونقلها من الحيز التاريخى إلى الواقعى والسياسى والرمزى الفلسفى.
وقد حرص محفوظ على مواكبة التنوع والتطور فى أساليب الكتابة العالمية، فقد أبدع فى الكتابة التى تصنف ضمن «تيار الوعى»، فنجد أنه فى هذا السياق كانت رواية «اللص والكلاب» مذهلة فى أسلوب كتابتها داخل نطاق تيار الوعى، ويعود ذلك إلى أن نجيب محفوظ كان مثقفا موسوعيا.