لجأت الولايات المتحدة إلى الخيار العسكري أملا في ردع التهديد، مع تصاعد التوترات في البحر الأحمر وتزايد الهجمات الحوثية، إلا أن هذه الاستراتيجية أثبتت محدوديتها، ورفعت من كلفة الانخراط دون تحقيق نتائج حاسمة.
وقال الباحث ويل إيه. سميث المتخصص في شئون الأمن في الشرق الأوسط وأوروبا والسياسات الدفاعية، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست، إن الحملة ضد الحوثيين في اليمن كانت غير فعالة ومكلفة.. والآن، ينبغي على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يقاوم الضغوط لإعادة الانخراط فيها.
وأضاف سميث، أنه عندما أطلقت الولايات المتحدة "عملية الفارس الخشن" ضد الحوثيين في منتصف مارس، كانت الجماعة تستهدف إسرائيل وليس السفن الأمريكية، وبعد إنفاق نحو مليار دولار، لا يزال الوضع على ما هو عليه اليوم.. وبينما أعلن ترامب النصر على الحوثيين في إعلانه المفاجئ عن وقف إطلاق النار، فإن الاتفاق لم يغير شيئا، بل أعاد فقط الوضع القائم بين الولايات المتحدة والحوثيين كما كان قبل الحملة.
ومع ذلك، قال سميث، إن إدارة ترامب كانت محقة في اتخاذ مخرج من حملة كانت تتجه بسرعة لتصبح حربا مفتوحة بتكاليف متزايدة ومخاطر تصعيد عالية، لكن مع استمرار هجمات الحوثيين على إسرائيل وتصاعد الانتقادات، حتى من بعض حلفاء ترامب، قد تجد واشنطن نفسها منجذبة للعودة إلى القتال، وعلى الإدارة أن ترفض الضغوط الداعية إلى "إنهاء المهمة"، وأن تظل ثابتة في قرارها بالانسحاب من الحملة.
وكانت الحملة ضد الحوثيين مضللة منذ البداية، فلم تكن ضرورية لحماية المصالح الاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة، ولا كانت مرشحة للنجاح.
وفي جوهر الأمر، فإن الاضطراب الاقتصادي المحدود الذي تسببت به هجمات الحوثيين على الشحن لم يكن كافيا لتبرير تدخل عسكري مكلف، كما أن حملة القصف التي نفذتها الولايات المتحدة لم تكن قادرة على القضاء على قدرة الحوثيين على مهاجمة السفن.
وتكيفت شركات الشحن بسرعة مع الضربات التي استهدفت السفن، وأعادت توجيه السفن حول القارة الأفريقية من دون أن يؤدي ذلك إلى زيادات كبيرة في الأسعار بالنسبة للمستهلكين، وخصوصا في الولايات المتحدة، علاوة على ذلك، وحتى مع وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، لا تخطط معظم شركات الشحن للعودة إلى البحر الأحمر قبل انتهاء حرب غزة.
وبعد إطلاق "عملية الفارس الخشن"، سرعان ما تبينت حدود القوة الجوية في مواجهة الحوثيين، فبعد شهر من العمليات المتواصلة تقريبا، فشلت الولايات المتحدة في تحقيق التفوق الجوي. ومع استمرار الهجمات الحوثية، كان المعيار الرئيسي للنجاح الذي تفاخر به القيادة المركزية الأمريكية هو حجم الذخائر المستخدمة، لا الأثر الاستراتيجي.
ولم تنجح الحملة في القضاء على قيادات الحوثيين أو في تقويض قدرتهم على تنفيذ الهجمات في البحر الأحمر أو على إسرائيل بشكل ملموس.
كما حذرت التقييمات الاستخباراتية الأمريكية، من قدرة الحوثيين على إعادة بناء قدراتهم بسرعة.
وأقر أحد المسئولين بعد وقف إطلاق النار، فإن الجماعة لا تزال تحتفظ بـ"قدرات كبيرة".
ولم يكن ينبغي أن يكون مفاجئا عجز الولايات المتحدة عن "القضاء التام" على الحوثيين، كما تعهد ترامب، فثمة تاريخ طويل من إخفاق القوة الجوية الساحقة في تحقيق أهداف سياسية، لا سيما ضد الجماعات المسلحة.
وصمد الحوثيون، أمام سنوات من القصف من قبل التحالف المضاد لها، وطوروا وسائل فعالة لتوزيع أسلحتهم وحمايتها واستبدالها.
وبالمثل، نجوا من محاولات متكررة لاستهداف قادتهم، ومهما طال أمد الحملة أو كثر عدد الأهداف التي ضربت، فإن قدرة الحوثيين على تهديد الشحن الإقليمي لم يكن من الممكن القضاء عليها من الجو.
واستنزفت الحملة ضد الحوثيين الموارد ولفتت الأنظار إلى منطقة كان ترامب، كسابقيه من الرؤساء، يأمل في الانسحاب التدريجي منها.
وتزايد قلق المسئولين في وزارة الدفاع بشأن الاستهلاك السريع للذخائر الدقيقة ونشر الأصول العسكرية عالية الطلب، بما في ذلك حاملتا طائرات ومنظومات الدفاع الجوي "باتريوت"، الأمر الذي أضعف من جاهزية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وكانت الولايات المتحدة، تستخدم صواريخ اعتراضية بقيمة مليوني دولار لتدمير طائرات مسيرة لا تتجاوز كلفتها ألفي دولار، وهو نمط غير مستدام زاد من الضغط على القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية.
وكان الأكثر إثارة للقلق هو خطر التورط التدريجي والتصعيد، سواء مع الحوثيين أو مع إيران.
ووفقا لصحيفة "نيويورك تايمز"، فقد اقترحت القيادة المركزية الأمريكية حملة تستمر بين ثمانية إلى عشرة أشهر، تشمل "اغتيالات مستهدفة على غرار العملية الإسرائيلية الأخيرة ضد حزب الله".
ومع اتضاح أن القوة الجوية وحدها غير كافية للقضاء على التهديد العسكري الحوثي، ورد أن مسئولين بحثوا توسيع الحملة لدعم القوات اليمنية المناهضة للحوثيين، وكان من شأن ضغوط التصعيد أن تتفاقم أكثر لو أن الحوثيين تمكنوا من قتل جنود أمريكيين، وهو أمر كاد أن يحدث في مناسبات عدة، وفقا لتقارير حديثة.
وظل خطر اندلاع صراع مع إيران حاضرا بقوة، ففي أوائل مايو، هدد وزير الدفاع بيت هيجسث باستهداف إيران بسبب دعمها للحوثيين.
وهدد هذا التلويح باستخدام القوة العسكرية بنسف المحادثات النووية في لحظة حرجة، ودفع الولايات المتحدة نحو شفا الحرب.
وتشير التقارير، إلى أن هذا الخطر الذي يهدد المفاوضات النووية مع إيران دفع المبعوث الخاص ستيف ويتكوف إلى الدفع باتجاه التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
لكن الضغوط لاستئناف الضربات ضد الحوثيين ستبقى قائمة، ومن المرجح أن تتصاعد مع استمرار الهجمات الحوثية على إسرائيل واستمرار عزوف السفن عن المرور عبر البحر الأحمر.
وقوبل اتفاق وقف إطلاق النار بانتقادات متوقعة في واشنطن، خاصة لأنه لا يشمل إسرائيل، وجرى التوصل إليه رغم بقاء القدرات العسكرية للحوثيين على حالها.
وعبّر السيناتور ريك سكوت (جمهوري عن فلوريدا) عن استيائه قائلا: "علينا أن نحاسب إيران، هذا الأمر لن يتوقف حتى تُحاسب إيران، سواء من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أي طرف آخر".
كما دعا السيناتور ليندسي جراهام (جمهوري عن ساوث كارولاينا) الرئيس ترامب إلى "محاسبة الجهات الشريرة" في ظل استمرار الهجمات الحوثية على إسرائيل.
والأخطر من ذلك، أن ترامب نفسه لوح بإمكانية استئناف الحملة الجوية، مهددا في 15 مايو بـ"العودة إلى الهجوم" إذا ما هاجم الحوثيون السفن الأمريكية مجددا.
وإذا أرادت الولايات المتحدة إنهاء هجمات الحوثيين بشكل دائم، فعليها أن تعطي الأولوية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، لا أن تعود إلى حملة قصف ثبت فشلها وارتفاع كلفتها.
فالحوثيون أعلنوا أن هجماتهم تهدف إلى الضغط على إسرائيل من أجل وقف الحرب في غزة، وتوقفوا بالفعل عن تنفيذ أي هجمات خلال الهدنة التي تم التوصل إليها في يناير.
والوقت عامل حاسم، إذ قد يستأنف الحوثيون هجماتهم على السفن في البحر الأحمر ردا على توسيع إسرائيل لعملياتها في غزة، وإنهاء الحرب في غزة، وهو في مصلحة الولايات المتحدة على أي حال، قد يكون أفضل فرصة لوضع حد لعدوان الحوثيين.
ولا يعفي وقف إطلاق النار إدارة ترامب من مسؤولية إطلاق حملة عسكرية غير محسوبة.
ومع ذلك، فإن ترامب يستحق الإشادة على إدراكه لفشل هذا النهج وتغييره للمسار، ففي ذلك، أظهر استعدادا لافتا للتخلي عن الأعراف التقليدية الضارة في السياسة الخارجية، وكثيرا ما منعت حسابات الخسائر الغارقة، والهواجس المرتبطة بـ"المصداقية"، والخوف من ردود الفعل السياسية، القادة من التراجع عن قرارات خاطئة، لكن ترامب انسحب بذكاء.. والآن، عليه أن يقاوم الدعوات للانخراط مجددا في مسار عبثي.