فى المقال الأول من هذا المسلسل عن ألمانيا واليابان استعرض بعض التغيرات فى السياسات الألمانية، باعتبار أن كلاهما كان ضمن الخاسرين فى الحرب العالمية الثانية لصالح قطبى النظام الجديد حينذاك الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، والتى وضعت قيودا مباشرة وضوابط على نشاطهما العسكرى والسياسى.
وحين نجد الآن الأقطاب السابقة تتصارع وتتصادم مرة أخرى، ويعود عالمنا إلى توجه استقطابى، بعد أن تحول النظام الدولى من نظام القطبين إلى القطب الأوحد الغربى إلى نظام متعدد الأطراف، مع هذه التغيرات نشهد خروج اليابان وألمانيا من بوطقهتما الأمنية والسياسية تدريجيا، وبدأ اعتمادهما بدرجات متزايدة على أنفسهما، بما فى ذلك اتخاذ قرارات أحادية دون حلفائهم، وهى تغيرات جوهرية من شأنها أن تنعكس على شكل ومضمون النظام الدولى المعاصر فى القرن الـ ٢١.
قررت ألمانيا أخيرا توفير أوكرانيا بعدد من الدبابات طراز ليوبارد، وجاء ذلك بعد تردد شديد ونقاش طويل ومفاوضات متشعبة، انتهت إلى توفيرها مباشرة بالتوازى مع توفير الولايات المتحدة أوكرانيا بدبابات من طراز ابرامز، وهو ما عكس تحولا فى مواقف البلدين، اللذين أيدا أوكرانيا وإنما كانا حذرين فى توفير أسلحة تغير كثيرا وسريعا من ميزان القوة فى النزاع، على أمل ضبط إيقاع التصعيد العسكرى والسياسى لروسيا.
ويوفر مقال كتبه المستشار الألمانى ألوف شولتز الذى تولى السلطة بعد انتهاء ولاية الطويلة لانجيلا ميركل أفضل أساس وشرح للمنهجية الألمانية المستجدة والمتطورة فى المجال الأمنى والعسكرى وكذلك فى المجال السياسى، والتى تدخل فى إطارها هذه الخطوة بتوفير الدبابات لأوكرانيا مباشرة، وبادئ ذى بدء يلاحظ أن ألمانيا تبرر نظرتها الأمنية المستحدثة بأن العالم يشهد الآن تغيرا تكوينيا جوهريا، تتنافس فيه أطراف عديدة على النفوذ والقوة، وتتحمل فيه ألمانيا مسئوليات خاصة، باعتبارها الضامن للأمن الأوروبى، وحلقة الوصل والتوافق داخل الاتحاد الأوروبى، والمروج الرئيسى للحلول متعددة الأطراف للمشاكل العالمية.
ولكى تقوم ألمانيا بهذا الدور أعلن شولتز أنها تستثمر فى قواتها المسلحة، وتدعم الصناعات الأوروبية العسكرية، وتزيد من مشاركتها وتواجدها فى إطار حلف الشمال الأطلنطى، مع تدريب وتسليح القوات المسلحة الأوكرانية، وتحقيقا لكل ذلك ــ مثلها مثل اليابان ــ ستطور بلاده وتبنى ثقافة استراتيجية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار الأخطار المستجدة فى أوروبا وتحديدا من روسيا، وأعلن أن ألمانيا وأوروبا ستلعب دورا نشطا وفعالا، وأشار إلى تخصيص ١٠٠ مليار دولار أمريكى لدعم من كفاءة القوات المسلحة الأمريكية، وهى خطوة استلزمت تعديل الدستور الألمانى وهو أعمق تعديل للدستور من ١٩٥٥.
هذا وأكد شولتز أن القوات المسلحة الألمانية ستتطور وتدعم، لتستطيع تأمين الدولة الألمانية وحلفائها، وهى نظرة جديدة من المجتمع الألمانى لمسئولياته، وخطوة وتوجه شبيه لمواقف اليابان أخيرا، فتمسكوا بأهمية قيام قواتهم المسلحة بردع من يهددهم وحماية مصالحهم، وشملت هذه التغيرات فى المنظور والممارسات الألمانية قيامها ولأول مرة بتسليم أسلحة إلى ساحة نزاع عسكرى حى، بعد أن رفضت القيام بذلك طويلا فى الماضى.
والأحداث والتغيرات الأخيرة تجاوزت المجال العسكرى، وشملت المنظور الدولى الألمانى، والتى لم تعد تعتبر أوروبا قارة سلام وروسيا شريكا محتملا، واستخلصت أنه من الضرورى أن تتحمل أوروبا تأمين نفسها بدرجات متزايدة، وهو ما يتطلب تدعيم القوات المسلحة للدول الأوروبية فرادى ورفع من كفاءة التنسيق فيما بينها، فقررت واتخذت إجراءات لتخفيف اعتمادها على الغاز الروسى، وأسرعت من معدلات تحولها للطاقة النظيفة بعد مرحلة انتقالية تستخدم فيها لمدة أطول الطاقة النووية والفحم، ولكل ذلك انعكاسات طويلة الأجل استراتيجية واقتصادية وبيئية، بل امتد ذلك حتى إلى مؤسسة الاتحاد الأوروبى وسبل عملها، بما فى ذلك استبدال اتخاذ القرارات بالإجماع وتبنى نظام لاتخاذ القرارات بالأغلبية فى مجال الشئون الخارجية ضمن أمور أخرى.
وفى سياق استعراض المنظور الألمانى الجديد تناول شولتز أيضا تنامى القوة والنفوذ للصين، كطرف فاعل ومؤثر فى الساحة الدولية يجب أن يلتزم بقواعد القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، كذلك بالقواعد الرئيسية لاقتصاد السوق وخاصة الشفافية والتنافسية بين المؤسسات الاقتصادية، وإنما أقر بضرورة ونية ألمانيا التعامل ببراجماتية مع دول العالم، بما فى ذلك من لديهم رؤى مختلفة ظالمة التزاما بالقانون الدولى.
يعكس كل ذلك أن ألمانيا القرن الـ ٢١ ستتخذ مواقف قيادية متنامية خاصة داخل أوروبا، وستتحمل مسئوليات متزايدة لتأمين أوروبا بكل ما يتطلبه ذلك سياسيا واقتصاديا، وذلك بناءً على قراءة مستحدثة ومقلقة للأوضاع الدولية، كما ستشجع أوروبا أيضا على تنشيط دورها فى المجال العسكرى.
وأرى من متابعة ألمانيا الكثير فيما رأيته من متابعة القراءة اليابانية للتطورات الدولية فى العقود الأخير، رغم اختلاف الساحة السياسية المباشرة أحدهما فى آسيا والآخرون أوروبا، وأعتقد أن الحسابات الأمريكية فى العقدين الماضيين التى تميل نحو الانكماش والتحفظ فى تأمين الأصدقاء جعلت كلاهما ييقن بضرورة تحمل المزيد من المسئولية الأمنية والسياسية ذاتيا، ومع هذا هناك أيضا عدد من الاختلافات بينهم أيضا، منها أن ألمانيا تستطيع الاعتماد والاستناد إلى بعض الدعم الأوروبى فى دورها الجديد، وهذا ليس متوافرا باليابان، كما ألاحظ أن إشارات ألمانيا إلى التعددية المرجوة فى العلاقات الدولية يتجاوز كثيرا إشارات اليابان لذلك.
هذا ويتوقع استمرار الوضع المتميز للولايات المتحدة فى الساحة الدولية لعقود ممتدة، وتنامى وضع الصين لاعتبارات عديدة وملؤها منطقة كبيرة من الساحة التى فقدها الاتحاد السوفيتى، وهناك دول ومراكز نفوذ وقوة متنامية ستظهر على الساحة الدولية، لكل منها حساباتها وعلى رأسها اليابان وألمانيا من المجموعة الغربية، هو دور تأخر كثيرا، فى ضوء قدراتهم الاقتصادية الضخمة، وهو تأخر ناتج فقط عن القيود التى كانت موضوعة على الدولتين منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى المجتمع الدولى وخاصة الدول الكبرى أخذ ذلك فى الاعتبار وتمكينهم من القيام بدور أكثر نشاطا، طالما ظل فى إطار القانون الدولى والتوافق بين مصالح الدول.
وفى ضوء ذلك وفى إطار نظام متعدد الأطراف على ألمانيا واليابان وغيرهم تحمل مسئوليات سياسية متزايدة، تتطلب منهم الحكمة قبل القوة فى التعامل مع الأمور، والشجاعة للحديث والمواجهة الصريحة للصديق والعدو، والعمل لبناء عالم ونظام دولى أكثر عدالة واستجابة لاحتياجات الكل، تأمينا لتعاونهم فى استغلال فرص التقدم والتصدى للتحديات والمخاطر الجمة التى تواجه العالم.
نقلا عن إندبندنت عربية