نشر الكاتب الصحفي اللبناني الكبير سمير عطاالله سلسلة مقالات في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية تحت عنوان «عمرو موسى يتذكر»، سلَّط فيها الضوء على بعض ما أورده عمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية في الجزء الأول من مذكراته التي نشرتها «دار الشروق» تحت عنوان «كتابيه»، قبل نحو أسبوعين.
وفيما يلي نصوص المقالات كما نشرت في صحيفة «الشرق الأوسط»:
• المقال الأول نشر في 27 سبتمبر 2017 بعنوان «عمرو موسى يتذكر»:
هناك نوع من المذكرات الذي يشبه الخبز: تقف الناس في الطوابير من أجل الحصول عليه. أنا شخصياً لم أنتظر وصول «كِتابيه» إلى بيروت، بل طلبت نسختي من القاهرة عن طريق مكتبة «بيسان». ثمة مرحلة عاشها العرب مع عمرو موسى، لا بد أن يستعيدوها معه، بشفافيته وصراحته واحترامه لنفسه ومهامه.
بدأت معرفتي به يوم جاء سفيراً لمصر إلى الأمم المتحدة خلفاً للدكتور عصمت. شاب قادم من المدرسة الدبلوماسية خَلفاً لرجل محافظ قادم من المدرسة العسكرية. كانت مصر لا تزال معزولة في الأمم المتحدة وفي العالم العربي. ولكن حيوية عمرو موسى وقدرته على تحمّل النقاش والعروبة الأصيلة فيه، كانت تمكّنه من هزم مجادليه. وكنت أحد هؤلاء. وعمرو، السفير لدى الأمم المتحدة، ثم وزير الخارجية، ثم الأمين العام للجامعة العربية، لعب دوراً جوهرياً في عودة مصر.
كثير مما حصل، كانت له علاقة بشخصية عمرو موسى وكفاءته ودماثته المرفقة بشجاعة غير قابلة للمساومة. ثقته بنفسه وبسيرته، فتحت أمامه المنابر المجالس. وكل المناصب التي شغلها، حمل إليها طابعه. حتى الجامعة العربية استعادها من التقاعد، ونفض عن خزائنها الغبار، وعادت الناس تحكي بها كشيء له وجود. بل ضرورة.
لقد أرسل إليها كمنفى قريب، لكنه حوَّل المنفى إلى ورشة. وعندما أطلق شعبان عبد الرحيم، المكوجي الظريف، أغنيته «باحب عمرو موسى... وبكره إسرائيل»، كتبت في هذه الزاوية ما معناه «اللهم احمِ عمرو موسى من أصدقائه».
لقد بدأ الشارع المصري يتحدث عن رئيس مقبل، فيما كان السيد جمال مبارك يضع على الطاولة حلمه، والسيدة سوزان تضع الترتيبات. وكان لا بد من إبعاد لا يبدو إبعاداً ولا نفياً، لكنه يحمل بوضوح معالم الإزاحة. لكن عمرو موسى صنع لنفسه وهجاً آخر. وبعد انهيار حكم الرئيس حسني مبارك، رأيناه بين المرشحين للرئاسة.
ماذا لو أن الذي فاز يومها كان رجلاً في استقلالية عمرو موسى وخبرته وصورته الخارجية، وليس الدكتور محمد مرسي وعقليّة الانتقام والثأر وقلب وجه البلد؟ نحن، الذين خارج مصر جغرافياً، وداخلها عاطفياً، كنا نعتقد أن عمرو موسى يمثل المصالحة التي لا يمثلها الحزبيون. ويمثل المستقبل المتوافق عليه، لا الماضي المتنازع على تقييمه.
• المقال الثاني نشر في 28 سبتمبر 2017 بعنوان «عمرو موسى يتذكر: المطاردة لطرد مصر»:
يقول عمرو موسى إنه بعد انتشار أغنية شعبان عبد الرحيم في مصر والعالم العربي، أدرك سلفاً أوان الخروج من وزارة الخارجية. وما لبث الرئيس مبارك أن استدعاه، وقال له، اذهب وبلغ عصمت عبد المجيد أنه تعب، ولا بد من تقاعده، وسوف تحل مكانه أميناً عاماً للجامعة.
حاول عمرو موسى الاعتراض بهدوء، قائلا إن عبد المجيد يشعر أنه قادر على البقاء في المنصب عامين آخرين. لكن مبارك قال بصوت مرتفع: اذهب وبلغ.
كانت تلك نهاية خدمات صعبة وحادة في الخارجية المصرية، خاض خلالها موسى حربين. الأولى، هزيمة 67 وهو في الحادية والثلاثين من العمر، والثانية خلال عملية عزل مصر وتخوينها. وقد قاد المرحلة بادئ الأمر معمر القذافي، ثم انضمت إليه بقية «جبهة الرفض». وذهب العرب بحملتهم إلى محاولة طرد مصر من كتلة عدم الانحياز، التي كانت مصر أحد مؤسِّسيها. ووقف الخطباء العرب أمام زعماء الهند ويوغوسلافيا والصين، يطالبون بطرد مصر في سريلانكا. وراح عمرو موسى يناور ويكافح من أجل ألا تخسر بلاده العضوية. ثم تكررت المحاولة في هافانا، ولكن بشراسة أقوى. وتولى بطرس غالي، رئيس وفد مصر، المجابهة ومعه نائبه عمرو موسى. وانتهى المؤتمر من دون قرار. وبعد سنوات قال دبلوماسي كوبي لعمرو إن فيدل كاسترو نفسه هو الذي منع الطرد قائلاً لمساعديه: «لا يمكن أن يصدر قرار الطرد من هافانا».
يعرف عمرو موسى أن مذكراته سوف تثير الجدل والنقد. وقد بدأ الهجوم عليها، كالعادة، من العناوين قبل قراءتها. وواضح أن الرجل يرى في عهد مبارك أكثر المراحل استقراراً، وأقلها مثاراً للانقسام بين المصريين... والأكثر وضوحاً، أنه يدوِّن للتاريخ والحقيقة، غير عابئ بالذين يكرهونهما. وهكذا، نراه يُغضب قسماً كبيراً من الأفرقاء بالقول إن «السادات كان فرعوناً مثل عبد الناصر». ولا يتوانى عن القول إن السادات كان يُعتبر أهم من الدبلوماسية المصرية ورجالها.
اغتيل السادات فيما كان عمرو موسى سفيراً لدى الأمم المتحدة، لكن نبأ وفاته لم يتأكد إلا بعد ساعات. ومع ذلك، بدأ المعزون بالتوافد على مكاتب البعثة المصرية. أول القادمين كانت جاكلين كيندي. لكن عمرو موسى يفوته أن يشرح السبب، أو لا يرى ضرورة لذلك: وحدة الحال في الاغتيال.
• المقال الثالث نشر في 29 سبتمبر 2017 بعنوان «عمرو موسى يتذكر: الباشا رشَّحه موبوتو»:
من قراءة عمرو موسى يتكوَّن لدينا أول رواية موضوعية لقصة ترشيح الدكتور بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة. ففي مذكراته هو، ترك غالي الانطباع بأنه بسبب طائفته، أبقي «وزير دولة» للشؤون الخارجية، وليس وزيراً كاملاً. وعندما جاء عمرو موسى وزيراً، قرر الاستقالة.
في رواية موسى، أنه كان يقدِّر كفاءات غالي وثقافته العالية أكبر تقدير. لكن بعد تعيينه، قامت ازدواجية واضحة بين الرجلين بصورة طوعية؛ مما زاد في قناعة غالي بالخروج. ولكن إلى أين؟ غالباً، يأتيك بالأخبار من لم تزود، على قول طرفة بن العبد.
كانت هناك في تلك الفترة معركة – مثل هذه الأيام – على منصب المدير العام لليونيسكو. وفكّر غالي في الأمر. ومن الصدف، أنه قام بزيارة إلى الكونغو، واجتمع إلى رئيسها موبوتو سيسي سيكو. وقال له موبوتو إن أفريقيا تعد قائمة باسم مرشحيها لمنصب الأمين العام، فلماذا لا يضع اسمه على القائمة؟ وأجاب غالي بأنه ليس لديه تعليمات من الرئيس مبارك في هذا الشأن. قال موبوتو، ضع اسمك الآن، ثم تقرر في ضوء جواب مبارك.
عاد غالي إلى القاهرة وفاتح الرئيس في الأمر. وافق، لكنه أحاله على وزير الخارجية. وكان الدكتور مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس للمعلومات، قد قال في دراسته إن الترشيح يتطلب موازنات وحملة كبرى واتصالات مع الدول الصديقة، وخصوصاً، الدول الكبرى.
بدأ عمرو موسى اتصالاته مع وزير خارجية أميركا جيمس بيكر، الذي أبلغه أنه يشك في إمكان نجاح غالي. لكن غالي تجاوز الاعتراض الأميركي. وأعتقد أن فرنسا لعبت دوراً في ذلك. بالنسبة إليها، لم يكن فرانكوفونياً ممتازاً فحسب، بل أفريقياً – عربياً أيضاً. بقية القصة وخاتمتها على يد المسز أولبرايت معروفة. لقد استخدمت الفيتو في مجلس الأمن ضد 14 دولة أخرى، لكي لا يتم التمديد «للباشا» الذي تجرأ على الإكثار من اللاءات في وجهها.
حدثت المعركة، وأصبح غالي أميناً عاماً. ويروي موسى أن مندوب مصر الدكتور نبيل العربي، جاء يهنئه بالفوز فقال له: «شوف بقى يا نبيل، أنا بقيت دلوقت على قمة العالم. أنا بطرس باشا. صاحبك عصمت عبد المجيد يا دوب بيه... أمين عام الجامعة العربية. وعمرو موسى شرحو، يا دوب وزير خارجية مصر. أما أنا، بطرس باشا، على رأس العالم كله».
الذين عرفوا بطرس غالي جيداً يمكنهم أن يتخيلوا المشهد. كان باشا 98 في المائة ومصرياً 999. 99 في المائة.