هشام محفوظ يكتب: رواية بيت الجاز لنورا ناجي.. الرواية تقدم مشروعا ثقافيا معاكسا للصناعة الفنية السائدة - بوابة الشروق
الخميس 5 يونيو 2025 12:49 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

هشام محفوظ يكتب: رواية بيت الجاز لنورا ناجي.. الرواية تقدم مشروعا ثقافيا معاكسا للصناعة الفنية السائدة


نشر في: الجمعة 30 مايو 2025 - 7:39 م | آخر تحديث: الجمعة 30 مايو 2025 - 7:40 م

تُعد رواية «بيت الجاز» نموذجًا للإبداع السردى الحقيقى، ذاك الذى لا يُتاح لقلم كاتبه بمحض المصادفة، بل يُولد من رحم الموهبة الصادقة والرؤية الواعية. العمل يتّسم بتماسك نصّى متين، يُحفز القارئ والناقد معًا على الدخول فى حوار تأويلى ممتد، بحثًا عن إجابات تفتح أفق التأمل على مصراعيه. تأتى هذه الدراسة لتتبع خيوط هذا التماسك، وتستجلى الأبعاد الجمالية والفكرية التى جعلت من «بيت الجاز» مختبرًا فنّيًا يقاوم النمطية، ويجدد طرائق الحكى.

بروح تحليلية وبلغة تُشاكس الوعى السائد، تُقدِم الرواية شهادة مريرة على عصر يُمعن فى سحق الإنسان، خاصة الكائن الهشّ غير المحصّن بالمعرفة أو الامتياز الطبقى. فى 202 صفحة، تنسج الكاتبة سردية تتقاطع فيها حيوات مرمر ويمنى ورضوى، لتفضح بنية إنسانية تعيد إنتاج القهر. يبدأ النص بخبر مقتضب عن رضيع يُلقى من نافذة مستشفى، يتحوّل إلى سؤال وجودى معلق: من المسئول؟ ومن يملك ترف الحكى؟

هندست نورا ناجى رواية داخل الرواية، جعلت من الكاتبة رضوى لسانًا للتأمل الذاتى، ومرآة تُعيد إلينا وجوهنا المزيفة. السرد ينتقل بين مستشفى الجذام وكوبانية الجاز والمقابر فى طنطا؛ أماكن تُعيد تشكيل الهامش كجبهة أولى للحياة والموت. الكاتبة تتجاوز الحكاية الواقعة لتكشف آلية العنف الرمزى والاجتماعى. لا تُهادن القارئ بل تربكه، وتجبره على أن يرى ما لا يُراد له أن يُرى. هذه ليست رواية تقليدية، بل رواية صادمة تحرك التساؤلات، بلا خلاص إلا بإعادة الاعتبار للحقيقة كما هى، حتى وإن كانت جارحة.

لا تقدّم الرواية عملاً سرديًا فقط، بل مشروعًا ثقافيًا معاكسًا للصناعة الفنية السائدة، تكتب كما لو أن الكتابة فعل اعتراض ضد ثقافة تحاول قولبة المرأة/الإنسان. كتابتها تمثّل المشاعر ولا تستهلكها؛ لا تكتب لتثير التعاطف، بل لتخلخل التصورات الجاهزة. كأنها تكتب بوعى ثقافى مضاد، مغمّس بالألم الشخصى، يفضح التواطؤ القهرى بنفاق الثقافة الإنسانية. كل عمل جديد لها يبدو اشتباكًا مع ذاته، نقدًا ضمنيًا لما سبقه، وتوظف السرد كحفر فى الذاكرة الجمعية والمسكوت عنه من وجع الإنسان.

المكان كبنية فلسفية:

فى «بيت الجاز»، لا يأتى المكان كمجرد فضاء بل كبنية فكرية وفلسفية: المقابر، الكوبانية، مستشفى الجذام. هذه الأماكن تفتح أسئلة عن العزلة والمقاومة الداخلية. المستشفى كمنفى روحى، المقابر ظلّ الفناء، الكوبانية مجال معلق بين ماضٍ مهترئ وحاضر بلا يقين. المكان يتحوّل إلى كينونة قائمة، فاعل سردى ومجال لتجلى الكينونة الإنسانية فى أقصى حالات انكشافها. المقابر ليست مجرد رمز للموت، بل امتداد زمنى وميتافيزيقى لفكرة الزوال، والمستشفى فضاء للعزلة الوجودية. الكوبانية نقطة تماس بين تآكل الزمن وهشاشة الحاضر.

الشخصيات:

شخصيات الرواية ليست نماذج نمطية بل كائنات مشوشة وصلبة وهشة معًا. مرمر ويمنى ورضوى يجسّدن مأساة بنيوية لمجتمع يغلف العنف بثقافة الصمت. الجريمة التى تبدأ بها الرواية تلقى بظلالها على أرواح ثلاث نساء: كاتبة تبحث عن خلاص، طبيبة تواجه واقعًا قاسيًا، وطفلة بريئة سُلبت طفولتها. مرمر تجسد الفقد الجذرى للبراءة، ويمنى الطبيبة تواجه تصدعًا داخليًا بين الواجب الأخلاقى والصدمة الإنسانية. رضوى، الكاتبة، تكتب لتفهم، تلملم شتات المعنى وسط رماد العالم، كأنها تحاول عبر فعل الحكى أن تنظم إمكانات المعنى فى واقع مأزوم.

الزمن:

الزمن فى الرواية عنصر فاعل يتداخل فيه الفكر والشعور. لا يُقدَّم كخط مستقيم بل ككائن ينبض بوعى الشخصيات، يتحوّل إلى حالة شعورية وفكرية تسائل الذات والواقع. الزمن يصبح فضاءً ديناميًا تتحرك فيه الشخصيات وفق نبضها الداخلى، ما يجعل السرد أداة لكشف أعماق الذات.

خاتمة:

«بيت الجاز» ليست رواية ساذجة التلقى رغم لغتها العذبة، بل عمل يتسلل كخدش ناعم لكنه يترك أثرًا ممتدًا فى النفس. رواية لا تُقرأ فقط بل تُعاش وتدفعك لمساءلة كل ما تظنه مستقرًا. إنها مرسلة سردية مفتونة بذاتها، رواية تكتب الكتابة نفسها لا الحكاية فقط. عمل يتجاوز التمثيل ليصبح فِعلًا مقاومًا، يهز القارئ من الداخل ويعيد تشكيل وعيه بما ظنه مألوفًا. نورا ناجى تطرح سؤالًا عن الكتابة ودور الأدب فى زمن الاستهلاك السريع، لتثبت أن الرواية يمكن أن تكون ثقافة مضادة بناءة تمشى عكس التيار بقوة صامتة واعية.

 

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك