أمريكا رايح جاي - مي حمدي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمريكا رايح جاي

نشر فى : الإثنين 1 يناير 2024 - 6:30 م | آخر تحديث : الإثنين 1 يناير 2024 - 6:30 م

أعود إلى الولايات المتحدة فى زيارة ثانية بعد غياب خمسة عشر عاما عبرت بى من نهايات العشرينيات إلى أوائل الأربعينيات فما زادتنى إلا طفولة! وحين زرت الولايات المتحدة للمرة الأولى آنذاك، كان كل شىء مبهرا! ولا يعنى الانبهار هنا إعجابا بالضرورة، ولكن كل شىء، أو كثيرا من الأشياء كانت جديدة على، أو أراها للمرة الأولى. أما الآن، ومع تكرار الأسفار، أصبح من النادر ــ للأسف ــ أن أندهش أو أهتز، أو حتى أكتب.
أذكر أنى كتبت وقتها فى مقدمة مذكراتى لهذه الرحلة: «اتضح أن هذه الرحلة كانت بالنسبة لى بمثابة صندوق الدنيا السحرى، أو رحلة «أليس فى بلد العجائب»! فقد مثل لى كل يوم فيها تقريبا مغامرة ورحلة جديدة، ووفر لى أسبابا كثيرة للسعادة والحزن، والانبهار والضيق، والانتصار والإخفاق، والخوف والاطمئنان، والاندهاش والإعجاب وعدم الرضا بل والامتعاض والاشمئزاز أحيانا! والأهم، أنى فى كل يوم كنت أجد ما يستحق الكتابة عنه».
أما الآن، فلا تدهشنى أمريكا، أو الغرب بشكل عام، بشوارعه الواسعة المنظمة، وجوه البارد الكئيب صيفا وشتاء. ثمة شىء ما فى بلادى يجعلنى أريد أن أقبل أرض مطار القاهرة بعد العودة من أى رحلة، طويلة كانت أو قصيرة! شىء ما يجعل أجمل جملة فى أذنى، والتى أتوق لسماعها طوال فترة وجودى بالخارج هى: «نستعد الآن للهبوط فى مطار القاهرة»! ربما رأى البعض تزيدا فى كلامى هذا، لكنه ما أشعر به بالفعل، رغم ما تعانيه بلادنا من آلام وجراح وأمراض عضال. ومن قال إن هذه القوة العظمى التى عدت منها لتوى لا تعانى؟! سمعت خلال رحلتى عن مشكلات ختان إناث، وعنف منزلى، وتحرش جنسى، وزواج أطفال، واحتجاز الأطفال مع الكبار مما يؤدى إلى مشكلات العنف الجسدى والجنسى، وغير ذلك من المشكلات، حتى أنه مازالت هناك مشكلات متعلقة بالعنصرية تجاه ذوى الأصول الأفريقية.
• • •
بدأت رحلتى بالعاصمة واشنطن «دى سى»، وقد كانت ومازالت بالنسبة لى، كالعديد من العواصم الأخرى، مكتبا كبيرا، رغم شوارعها النظيفة المنظمة الممتلئة بالورود والخضرة. يوجد إشارات مرور للسيارات وأخرى للمشاة. من النادر جدا أن تسمع آلات تنبيه السيارات. حتى أنى ضحكت على نفسى حين التفت فزعة لسماعى آلة تنبيه وكأنى لا أعيش فى مدينة هذا هو الطبيعى فيها. المترو ليس مبهرا، رغم تعدد الخطوط وتشعب الاتجاهات، لكن مستواه عادى جدا، وهو كئيب بعض الشىء. ولا تخلو شوارع عاصمة القوى العظمى من المشردين والشحاذين.
طقس واشنطن متقلب جدا بشكل مثير للعجب فقد يتغير من خمس دقائق إلى أخرى، من شمس مشرقة إلى غيوم ورياح، وربما إلى أمطار! وحين تسقط الأمطار فقد تهطل فجأة بغزارة وقد تستمر فى الإمطار طوال اليوم، والحياة لا تتوقف.
أعجبنى فى واشنطن تجربة المؤسسة غير الحكومية «التمكين بالفن «Art Enables والتى تقدم الدعم للفنانين والرسامين من ذوى الإعاقة، وتوفر لهم الدعم والمكان للإبداع مع عرض وتسويق منتجاتهم، ويتم أحيانا التركيز على موضوع معين لمناصرته من خلال الفن.
ربما كان الشىء المميز فى رحلتى هذه المرة هو زيارتى لمناطق غير معتادة، لم أتوقع أن أزورها يوما. فمن العاصمة انطلقت إلى مدينة «إلباسو» بولاية تكساس، فكنت على بعد أمتار قليلة من المكسيك. بمعنى أصح، كنت أرى المكسيك أثناء التنقلات اليومية يفصلها عن الولايات المتحدة سور حديدى مفرغ. وفى زيارتى لمنطقة للحدود عبرت بقدمى عبر الفراغات فى السور الحديدى لأزعم بأن قدمى قد وطأت دولة جديدة. كنت أشعر فعلا أنى فى المكسيك، خاصة فى ذلك الشارع الطويل الممتد من الحدود إلى قلب المدينة، وهى مسافة بسيطة جدا بالمناسبة. يكتظ هذا على الجانبين بمتاجر صغيرة تبيع أى شىء وكل شىء، والأغلبية العظمى من الباعة من المكسيكيين، حتى أنهم يبدأون التحدث معك بالإسبانية قبل أن تنبههم بأنك لا تتحدثها، وبعضهم لا يتحدث الإنجليزية أساسا. لا أدرى لماذا أسعدنى اختلاطى بالمكسيكيين؟ ربما أصبحنا نتعاطف مع الشعوب التى تعانى مثلنا، نتحدث معهم ونمازحهم، ونتبادل الهموم والضحكات. ربما لأنى كنت أشعر بشدة باختلاف التجربة، وأنى لست أسيرة القالب الأمريكى. لم أتوقع أبدا فى الولايات المتحدة أن أرى متاجر قديمة تشبه وسط البلد فى الثمانينيات أو ما قبلها، ومحلات صغيرة أستطيع فيها أن أتجاذب أطراف الحديث مع البائعين وأفاصلهم فى السعر. ولا أنسى هذا العامل المكسيكى فى مطعم «البيتزا» الذى حدثنا عن بناته الثمانية، واللائى يحتاج للعمل لأوقات طويلة من أجلهن.
تتميز المدينة بإطلالة جبلية جميلة، وكان من السهل الانتقال إلى ولاية «نيو مكسيكو» حيث زرت متنزه الرمال البيضاء بكثبانها الرملية فوجدتها عادية جدا، وأتصور أن الصحراء البيضاء فى مصر أجمل بكثير وأكثر إبهارا رغم أنى للأسف لم أزرها بعد.
تم استقبالنا بحلوى تشبه «الفولية» المصرية. حذرونا بشدة من حرارة الجو الشديدة، ولكن كقاهرية لم يكن الأمر صعبا. استمتعت بالمطاعم المكسيكية، وبعضها يرتدى فيها العاملون ملابس مكسيكية قديمة لاستكمال الأجواء. استمتعت بمطعم عربى مميز يبيع اللحم والدجاج الحلال، رغم أنى لم أتوقع وجوده فى مثل هذه المدينة الحدودية. أثار استغرابى بشدة أحد المطاعم الأمريكية الشهيرة للوجبات السريعة الذى علق لافتة كتب عليها: «لدينا الحق فى رفض خدمة أى شخص»!!
• • •
من تكساس إلى كنتاكى ومدينة «لويفيل»، مسقط رأس محمد على كلاى، حيث تحتفى به المدينة احتفاء شديدا، فالمطار باسمه، ويوجد شارع باسمه، ومتحف خاص به يعرض قصته وتاريخه ونضاله وأقواله ومحاربته للعنصرية، وقيامه بتغيير ديانته إلى الإسلام، وذلك من خلال الصور والأفلام والمقتنيات الحقيقية. وأعجبنى بيع كتب رسوم متحركة بمتجر التذكارات الملحق بالمتحف تحكى قصته بشكل مبسط للأطفال، ولا يغفل حتى تغيير ديانته للإسلام.
وأول ما هالنى فى شوارع «لويفيل» انتشار المشردين بشكل كبير جدا فى الشوارع، بشكل أكثر من المعتاد أو المقبول، وأغلبهم من المرضى النفسيين، مما يثير فضولى لماذا لا تقوم أمريكا بجمع مشرديها من الشوارع وحمايتهم وكفالة حقوقهم بدلا من ادعائها «إصلاح العالم» وفقا لمعاييرها المزدوجة؟ أما أكثر ما أمتعنى فى «لويفيل» فكان المشى على الكوبرى الممتد بينها وبين جنوب إنديانا ومشاهدة نهر أوهايو فى مشهد ذكرنى كثيرا بنهر النيل، إلى جانب المشى وسط الغابات لمدة ساعتين أعلى أحد الجبال.
• • •
أنهى رحلتى بمدينة «جاكسونفيل» بفلوريدا، حيث تستهل الزيارة بصياح سائق الحافلة بحماس منقطع النظير ليرينا شيئا ما من النافذة. أنظر ليخرق عينى مشهد ثعبان أسود صغير ينطلق حرا طليقا فى الحديقة أمام مخرج المطار!! ولا أدرى ما سبب سعادة السائق بهذا المشهد الذى أصابنى بالرعب وأحمد الله أنى كنت بداخل الحافلة التى ابتعدت سريعا، رغم تأكيد السائق بأنه ثعبان غير سام.
فى «جاكسونفيل» زرت شاطئ المحيط، واستمتعت بمشاهدة الغروب فى نزهة نهرية رأيت خلالها الدلافين تلهو فى الماء. وحين زرت المكتبة العامة لاحظت أيضا انتشار المشردين داخل المبنى! وقد علق المدير التنفيذى بأنه يسمح لهم بالبقاء فى المكان واستخدام مرافقه، بل إن بعضهم يقوم بقراءة الكتب، هكذا ذكر والعهدة على الراوى!
تأثرت فى «جاكسونفيل» بزيارة المؤسسة غير الحكومية «الأمل فى اليد» Hope at Hand والتى تعمل على استخدام أسلوب العلاج بالشعر والفن لإشراك الشباب فى المجتمع ودعم الوعى الثقافى، من خلال زيارة الأطفال الأكثر احتياجا والمعرضين للخطر فى دور الأحداث ودور الرعاية وغيرهما، حيث يقومون بأنشطة وتدريبات مع الأطفال للتعبير عن المشاعر والعلاج النفسى من خلال الشعر والرسم.
• • •
تنتهى رحلتى، وأعود لوطنى بطائرات ثلاثة فى رحلة طويلة مرهقة لم يصبرنى عليها سوى أنها تنتهى بى فى مصر، وطنى الحبيب. حسنا، ربما لم تعد الأسفار تلهمنى بما يكفى لتدوين مذكراتى يوما بيوم مثل البدايات، ولكن على الأقل مازال بإمكانى صياغة بعض المشاعر والملاحظات!

مي حمدي مديرة اللجنة الثقافية بالمجلس القومى لحقوق الإنسان ومرشد تربوي
التعليقات