الموضة لم تعد موضة - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 7:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الموضة لم تعد موضة

نشر فى : السبت 1 يوليه 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : السبت 1 يوليه 2023 - 8:30 م
ذَهَبت لزيارة الأقارب وهى ترتدى فستان العيد، رغم كل الظروف الاقتصادية الصعبة. أرادت أن تُبقى على بهجة الاحتفال وأن تستعرض قدرتها على اختيار ما يلائمها من الملابس كما عُرف عنها، فنحن نبعث العديد من الرسائل المشفرة حين ننتقى ثيابنا، نعكس جزءا مهما من شخصيتنا، نعبر عن مشاعرنا وعن آرائنا تجاه أمور معينة، نرمز أحيانا لما نريد أن نكون عليه وما نتطلع إليه، بل ونحاول إقناع أنفسنا بتلك الصورة التى نفرضها.
عوامل نفسية واجتماعية كثيرة تحكم خزانة ملابسنا التى غالبا ما تكتظ بأشياء لم نعد نرتديها منذ زمن كصاحبتنا التى حاولت ترتيب ما لا يمكن ترتيبه بفرز الأطقم الصيفية والشتوية، لكنها لم تتمكن من التخلص من قديمها الذى صاحب بعض ذكرياتها وشهد هيئاتها المختلفة، وهى أصغر، وهى مستريحة البال، وهى أخف وزنا.. مثلنا جميعا احتفظت ببنطال ضيق لم تضعه منذ سنوات على أمل أن تفقد بعض كيلوجرامات وتعيد استخدامه، وإلا ستضطر للاعتراف بالأمر الواقع وأن الزمن لا يرجع إلى الوراء. هى تقاوم فكرة أن هناك ما يخرج عن نطاق السيطرة، وبالتالى تُكدس الثياب فى الخزانة من باب الاحتياط لأى ظرف طارئ أو فعل مباغت من أفعال الدهر، خاصة أنه حاليا لم تعد هناك موضة واحدة طاغية بل موضات سريعة مؤقتة، صرعات متلاحقة تزول بسرعة وتحل واحدة تلو الأخرى.
• • •
مسايرة الموضة ارتبطت دائما بمزيج متناقض من الرغبة فى التفرد والحرية الشخصية وإثبات الذات من ناحية، ومن ناحية أخرى بمتابعة ما يفعله الآخرون وتقليدهم من باب التجديد، مع مراعاة أن نظل مقبولين اجتماعيا، فلا نكون غريبى الشكل والمنظر. وفى عصر العولمة ازداد هذا التناقض ما بين الميل إلى توحيد الأزياء على مستوى الكوكب من جهة، ومن جهة أخرى التشبث بكل ما هو لباس تقليدى وأثواب عرقية للإعلان عن هوياتنا أو انتماءاتنا المختلفة، وينتشر هذا السلوك لدى بعض الأفراد أو المجموعات، ربما على سبيل التمرد. الأمر الذى دفع مصمما شهيرا بحجم الراحل كارل لاجرفيلد لأن يصرح عام 2013: «لم تعد هناك موضة، بل مجرد أزياء».
لأن الموضات التى تظهر وتختفى على الساحة تعكس التشرذم الحالى وتَفَكُك الرابط الاجتماعى، تفتت إلى مجموعات ثقافية أو إثنية، صغرت أم كبرت، إلى فرق وطوائف تسعى إلى التمايز. ماتت إذا الموضة التى كانت تسعى إلى فرض إرادة قلة قليلة على الأغلبية، وصرنا فى زمن الموضات السريعة المتنوعة التى يعتبرها البعض امتدادا للتوجه الليبرالى فى عالم الأزياء، ميل إلى التشظى بعد فشل التمحور حول وجوه مركزية بعينها تحتكر مواصفات الجمال والقبح. ظهر مفهوم «الموضة السريعة» (fast fashion) فى منتصف تسعينيات القرن الماضى ليصبح المقابل الموضوعى للوجبات السريعة فى الطعام (fast food)، بضاعة مصنعة رخيصة الثمن، إذ تقلص سعر تكلفة الملابس حول العالم بنسبة 14% بين عامى 2005 و2011، وصارت الموضات فى متناول عدد أكبر من البشر ما صوره البعض كإحدى تجليات الديمقراطية والفردانية داخل مجتمعاتنا. وبدلا من أن كان لدينا لسنوات طوال أربعة مواسم للموضة يطرح خلالهم المصممون موديلات جديدة، فى الشتاء والربيع والصيف والخريف، صار هناك ما يقرب من 52 حدثا أو فاعلية موزعين على مدار العام. يتم خلالهم طرح بعض الموديلات ثم تختفى وتظهر أخرى. وكان من تأثير ذلك أن نتاج صناعة الموضة صار يقدر بنحو 80 مليار قطعة فى السنة، وأن فروع محلات ماركة عالمية مثل «زارا» انتشرت فى 69 دولة ليصل عددها إلى 4700 متجر قبل أزمة الكورونا، وأن أرباح سوق الملابس تزايدت فى الفترة ما بين 2015 و2020، ثم بعد انخفاض ملحوظ فى العوائد بسبب الجائحة، وصلت قيمة المبيعات إلى 1.53 بليون دولار أمريكى سنويا، وفقا لتقديرات عام 2022.
• • •
حين تحدثت كوكو شانيل عن قصر عمر الموضة، فقالت: «يجب أن تموت موضة لتأتى أخرى على الرحب، فتعيش التجارة وتزدهر»، لم تكن تتوقع بالطبع أن تكون وتيرة التغيير بمثل هذه السرعة، لكنها كانت من أهم الأسماء التى شكلت تاريخ الأزياء منذ أن رسمت ملامح «الأناقة الجديدة» فى العشرينيات، ببساطتها المتناهية فيما يتعلق بتفصيلات الملابس ونوعية الأقمشة. بعدها خلال الخمسينيات والستينيات ازدهر سوق الملابس الجاهزة الذى قلب الأوضاع رأسا على عقب. شهدت الصناعة اهتماما أكبر بموضة الشارع ورغبة الشباب فى الثورة على السائد وحرصهم على ألا يشبهوا أهاليهم. ظهرت موضة البنطلون «الجينز» الذى كان لباسا لعمال المناجم والفلاحين. وقبلها فى فترة ما بين الحربين العالميتين شح القماش فكانت موضة الفساتين والتنانير القصيرة، وفى غضون عام 1947 ازداد طول القماش حتى وصل إلى الكاحل. كانت زمرة من المصممين هى من قررت ذلك واخترعت مفهوم «تغيير المظهر» أو«النيو لوك» الذى صرنا نردده كثيرا هذه الأيام، وقد تنامى دورهم منذ ظهور مصطلح «الخياطة الراقية» (Haute couture) فى منتصف القرن التاسع عشر، وهى تعنى تفصيل موديلات وتنفيذها على أيدى مصممين وخياطين على درجة عالية من الاتقان والخبرة، وهؤلاء هم من يقررون الخطوط العريضة للموضة فى كل موسم.
على مر التاريخ كانت الموضات المختلفة تتأرجح بين ثنائية ما هو «للجميع» وما هو مرصود «لقلة مختارة»، «ما يجعلك تشبه الآخرين» و«ما يجعلك لا تشبه إلا نفسك». لكن دور الملابس فى صنع الهويات الفردية والجماعية، رغم أهميته، لم يحظ بالاهتمام الكافى ولم يتوقف عنده إلا القليل من الباحثين، فليس لدينا عدد وافر من الدراسات التى تتناول الربط بين الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية للأزياء على مستوى العالم، هذا بخلاف تأثير الموضة على البيئة وهى ضمن الصناعات الأكثر إضرارا بها بعد صناعة البتروكيماويات. مصنع لماركة عالمية موجود فى آسيا أو شمال أفريقيا، فستان بأكمام طويلة أو عباءة مزخرفة أو إيشارب ملون يغطى رأس امرأة.. وراءهم الكثير من المعلومات والتحليلات.
التعليقات