لا شىء يمكن أن يخرجه عن سمت اعتداله ووقاره، فرجال الطريقة الميرغنية الختمية - وهو منهم - مشهورون بالهدوء والسكينة والبعد عن المشاغبات. حين اضطرته ظروف الحرب أن يلجأ إلى مصر توجه فورا إلى تكية باب الوزير بالقاهرة حيث يقع مقام السيد محمد سر الختم الميرغنى، الحفيد الأكبر للإمام الختم، شيخ الطريقة ومؤسسها فى العام 1817م. وتحت قبة التكية دُفن بعض الأشراف وكبار السادة الميرغنية، فقد كان ينزل فيها علماء السودان عند قدومهم إلى مصر، كما زارها رجال دين بارزون أمثال محمد عبده والبشرى والجعفرى. لم يفكر كثيرا قبل أن يطرق باب إخوته فى التصوف، بل هناك ما جعل المكان يناديه، فهو يحمل اسم صاحب المقام، سر الختم، الذى اختار هذا الموقع تحديدا بعد رؤية منامية مباركة. اسمه يعتبر ضمن الأكثر شيوعا فى السودان، خاصة فى شرق البلاد حيث انتشر أتباع الطريقة التى انتقلت أيضا إلى مصر والحجاز واليمن. ورتبة «الختم» فى الصوفية لا يبلغها إلا عارف أو ولى، لذا اقترنت بالشيخ الحنفى السيد محمد عثمان الميرغنى، مؤسس الطريقة التى صارت تعرف بالختمية.
وقف بين صفوف المريدين يردد الأذكار والأوراد دون بدع وآلات موسيقية، يجيد الإنشاد وتنغيم اللحن مرددا مديح الختمية: «صلوا على بحر الصفا المصطفى»، ومن بعدها «إلهى رافع الرتب دعاء غير محتجب»، وتتوالى المدائح والأهازيج التى تؤنس وحشة غربته. حياته شهدت العديد من التغيرات والانقلابات أخيرا بسبب استمرار الصراع بين قوات الجيش وميليشيات الدعم السريع لأكثر من عامين، وقد قضى معظمها بين مدينتى كَسَلا، مسقط رأس أهله فى الشرق، وبورتسودان حيث كان يعمل فى تصليح الساعات بالسوق الكبيرة. يجلس بحقيبته الصغيرة السوداء أمام منضدة فوقها بعض الأدوات مكتفيا بالقليل، فمهنته لم تعد كالسابق بسبب تراجع استخدام الساعات التقليدية فى ظل هيمنة الهواتف المحمولة والإكسسوارات والأجهزة الذكية. يحاول أحيانا زيادة دخله بالعمل فى جنى الصمغ العربى الذى يأتى على رأس صادرات السودان، لكن هذا لا يمنع أنه متعلق بمهنة الساعاتى ويعشقها منذ الطفولة حين تعلمها على يد والده.
•••
باتت الخيارات أمامه شبه معدومة فى ظل اضطراب الأوضاع ونفدت مدخراته خلال رحلات النزوح المتكرر، حتى وإن كان مجال الصمغ العربى هو من المجالات القليلة التى لم تتوقف تقريبا، فمصلحة جميع الأطراف الداخلية والخارجية اجتمعت على استمرار إنتاجه وتصديره لتمويل الحرب من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن الغرب بحاجة ماسة إليه فهو يدخل فى الكثير من الصناعات الغذائية والدوائية والتجميلية. لذا حين فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حصارا اقتصاديا وتجاريا على السودان عام 1997، بتهمة دعم نظام البشير للإرهاب الدولى، تم استنثناء الصمغ العربى من قائمة السلع المشمولة بالعقوبات، نظرا لأن واشنطن تستورد ثلثى ما تنتجه السودان ويذهب جزء كبير أيضا من الإنتاج إلى دول الاتحاد الأوروبى. أى إن الغرب لا يمكنه الاستغناء عن صمغ السودان الذى سُمى بالذهب الأبيض لأنها تستأثر بحوالى سبعين فى المائة من حجم الإنتاج العالمى، وهو يُستخرج من أشجار الأكاسيا (السنط) التى تنمو بمناطق السافانا فى السودان ضمن الحزام الصحراوى الممتد من الحدود الغربية مع تشاد إلى حدودها الشرقية مع إثيوبيا، عبر 13 ولاية، وعلى مساحة تبلغ حوالى 500 ألف كم مربع.
امتنع سر الختم عن تناول المشروبات الغازية والزبادى والعلكة وغيرها من الأطعمة التى يدخل الصمغ العربى فى تحضيرها. قاطع شركات بعينها صارت رمزا للعولمة وهى نفسها التى تدعم إسرائيل ضد فلسطين، وهى أيضا التى تشترى ذهب بلاده الأبيض دون أن تعبأ بهوية المصدر حتى وهى تعلم أن البضاعة التى تصلها قد تكون مهربة وتُستغل أموالها فى قتل الأبرياء على يد الميليشيات التى سيطرت على مواقع الإنتاج. لم يتخيل يوما أن المادة اللزجة التى تفرزها أشجار يسميها أهل بلاده «الهشاب» أو يتم استخراجها عن طريق خدش الجذوع كى تسيل العصارة وتأخذ شكل بلورات لونها أبيض يميل إلى الأصفر الشفاف الزجاجى، والتى طالما شارك فى جمعها ليصبح واحدا ضمن أكثر من خمسة ملايين شخص يعملون بمهن تتعلق بالصمغ العربى، لم يتخيل أن تكون جزءا من أسباب نكبة السودان. يعلم أن هذا الأخير كان دائما ضحية موقعه المتميز وموارده الطبيعية الغنية الموزعة على مساحة شاسعة تقارب الـ2 مليون متر مكعب، لكن فى أسوأ أحلامه لم يكن يتصور أن يصل بهم الحال إلى هذا الحد. «الهشاب» كانت بالنسبة إليه ولأقرانه شجرة صديقة يستظلون بها ويستخدمونها فى التداوى من خلال وصفات شعبية لعلاج مشاكل الكلى والمعدة. خلال فترات الجفاف فى الثمانينيات والتسعينيات تراجع الإقبال عليها نسبيا نظرا لعوامل مناخية وأخرى تتعلق بتذبذب أحوال السوق، لكن عادت إليها مكانتها وأكثر مع ارتفاع الأسعار العالمية بين 1992 و2016 بسبب زيادة الإقبال على هذا المستحلب العضوى الذى يذوب فى الماء دون أضرار جانبية ودون طعم أو رائحة.
•••
فى بورتسودان، مدينته، تدير شركة الخرطوم لتصنيع الصمغ العربى مختبرا ومستودعات مجهزة لضمان جودة إمدادات التصدير، كما يوجد مصنع فى الميناء. فى الماضى كانت هذه الشركة مملوكة للدولة التى كانت قد احتكرت تسويق الصمغ العربى منذ نهاية الستينيات، لكن منذ سنة 2009 أصدر البشير مرسوما بتعديل هذا الوضع، لتصبح حصة الدولة فى الشركة لا تتجاوز 30 فى المائة، والباقى موزع بين المساهمين واتحاد المنتجين. وحاليا صارت هناك طرق وشبكات أخرى بديلة لتمرير الصمغ العربى إلى الخارج، وذلك بعد فترة اضطراب عمت التجارة فى الأشهر الأولى من الصراع.
يتابع سر الختم الأخبار ويردد: «يا ساتر» ثلاث مرات كعادته حين يرى ما يفزعه. ربما كان عليهم أن يفهموا الإشارة حين ساءت حالة أشجار الصمغ وتأخر موعد الحصاد فى 2019 بسبب تغير مفاجئ فى المناخ. يدندن ابتهالا بصوت رخيم، ويسرح بخياله قليلا وهو يتصفح صورا قديمة له فى ميناء بورتسودان وفى سوقها الرئيسية، يضعها فى ظرف ورقى كبير دون لعق شريط الصمغ، فهو لا يريد إغلاقه.. قد يضم إليه ذكريات أخرى لاحقا.