شيكولاتة وأشياء أخرى - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شيكولاتة وأشياء أخرى

نشر فى : الخميس 2 مارس 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : الخميس 2 مارس 2023 - 8:10 م
عندما أتى الصديقة صوت صديقتها فلانة مزغردًا فور انتهائها من زيارة خطيبها- أدركَت أن المهمّة الصغيرة إياها قد انتهت بنجاحmission accomplished، وأن علبة الشيكولاتة المُرّة التي حملَتها فلانة لخطيبها قد انتقلَت إليه بسلاسة من خلف الأسوار. هذا لم يمنع أبدًا من أنها هي نفسها لم تستوعب أن صوت فلانة المغموس في السعادة حدّ التشبّع كان بسبب علبة مستطيلة من الشيكولاتة المُرّة لا أكثر ولا أقل، مع أنها كثيرًا ما كررّت في مناسبات مختلفة أن المشاعر الصادقة مُعدية في الفرح والحزن معًا. لم يكن الخطيب قد صرّح لأحد بأن نِفسه في الشيكولاتة المُرّة، بالعكس كان يعتبر أن من المزايا القليلة جدًا لوجوده خلف القضبان أنه تخلّص من عدة كيلوجرامات زائدة بدأ يشعر بوطأتها عندما يصعد السلالم، وبالتالي فإنه عندما سُجِن وصار زوّاره هم مراياه التي تنعكس عليها صورته، كان يشعر بالرضا عن نفسه كلما سمعهم يقولون له: خسيت كتير عن الأول.. بس كده أحسن، وبالفعل فإن كده كان أحسن. هو إذن لم يفضفض ولو بحرف واحد عن موضوع الشيكولاتة، ومع ذلك فإن خطيبته وضعَت نفسها في داخل بدلته وزنزانته وعُزلته عن العالم وافترضَت أنها بعد شهرين كاملين من السجن، لابد أن يكون منسوب الشيكولاتة قد انخفض في دمها إلى حدّ ينذر بالاكتئاب، وأنها لابد أن تكون قد اشتاقت جدًا لهذه الحلوى اللذيذة، خصوصًا إن كانت مُرّة أو غامقة، فهذا النوع من الشيكولاتة لا يعرف قيمته إلا الشخص الذوّاق وكلاهما- هي وهو- لهما نفس الذائقة، فهما معًا يعتبران أن الشيكولاتة الغامقة لها قدرة لوذعية على تحلية الفم، وفي بعض الأحيان تكون لها قدرة على تحلية الحياة نفسها. نعم الشيكولاتة تفعل ذلك، أو مَن يحبها يتصوّر أنها تفعل له ذلك، فالأشياء كما أن فيها جزءًا حقيقيًا فإن فيها جزءًا آخر مُتخيّلًا مرتبطًا بمرئيات خاصة.
• • •
لم تكن تظن الصديقة أن هذا الموضوع الصغير يستحق كل معاناة صديقتها حتى رأت معاناتها بنفسها، فحين اقترب موعد زيارة الخطيب ولم يعد يفصل بين فلانة وبين اليوم الموعود إلا أسبوع واحد، بدت غير مرتاحة عكس المتوقّع. كانت تشعر ببعض الحرج من أن تحمل لخطيبها علبة شيكولاتة لا تشبه في شيء ما يحمله عادةً أهالي السجناء الآخرين. ثم عادت وصرّحت لصديقتها بأنها تشعر مع علبتها كما لو كانت ذاهبة لزيارة دار أيتام أو إصلاحية أحداث، وأنه لا ينقصها إلا أن تربط في رسغها مجموعة من البلالين الملوّنة المنفوخة بالهيليوم حتى تكتمل هذه الصورة السيريالية من حولها. يرسل الأهالي لذويهم بعض أنواع الدواء والملابس الثقيلة ويتركون لهم نقودًا في الكانتين وترسل هي لخطيبها شيكولاتة مُرّة، هل هذا معقول؟ هم يتعاملون مع الوضع بما يستحقه من جديّة وصرامة وهي تصمّم ألا تخلع عنها رداء طفولتها، أتراها لن تنضج أبدًا؟ بدت في كسوفها كما لو كانت تظّن أنها ستأتي بما لم يأت به أحد من قبلها أو كأنها ستكون هي حاملة الشيكولاتة الوحيدة في تاريخ السجون، عمومًا هي معذورة فمن أين تأتيها الخبرة بهذه المواقف وكل علاقتها بالداخلية والأقسام والشرطة طيّاري وعلى أضيق نطاق ممكن. في الحقيقة لم تكن صديقتها مؤهلة لتعويضها عن هذا النقص في خبرتها الحياتية، فالحال من بعضه كما يقولون، لكن صديقتها كان يمكنها أن تنفذ إليها من ثقب آخر. قالت لها، إن هذا الكسوف من الشيكولاتة وحتى من البلالين لا يوجد له ما يبرره، وإن الواحد منّا لا يحتاج أن يكون يتيمًا أو لقيطًا أو قاصرًا ليستمتع بالأشياء الصغيرة، ولا هو من المنطقي أن نصنع تراتبية للاحتياجات المادية والمعنوية ونعطيها أرقامًا من واحد إلى عشرة لأن احتياجات الناس تختلف، لكن الذي تثق فيه صديقتها وتعرفه حق المعرفة أن الاحتياج شعور قد لا يخضع للتفسير المنطقي، فالاحتياج هو احتياج. وعلى الرغم من أن صديقتها فسّرت لها الماء بالماء حين قالت لها إن الاحتياج هو احتياج، فإنها للعجب كانت مقنعة، وهذا أشعر الصديقة بالرضا عن أدائها. انتهينا من الشعور بالحرج مما سيقوله الآخرون عن فلانة وهي تبعث لخطيبها بعلبة الشيكولاتة المُرّة، وانتقلنا بعد ذلك إلى الشعور بالقلق من ألا تصل هذه العلبة أصلًا إليه. كان مبعث القلق أن مفهوم الشيكولاتة يتناقض بشكل عام مع الفلسفة العقابية التي بُني عليها منطق تقييد الحرية الشخصية، وعلى حدّ قول فلانة إذا نحن أزلنا الأسوار الفاصلة بين داخل السجن وخارجه، فأي داع سيكون للوجود خلف الأسوار؟. بدا لصديقتها أن المهمة هذه المرة ستكون أبسط، فلقد كان من السهل عليها أن تذكر لفلانة أن أسباب التكدير داخل السجن لا تنطبق على شخص مثل خطيبها يقضي عقوبته بسبب حادث سير، والأهم من ذلك أنه شخص في حاله، وهذا يساعد على بناء علاقة لا بأس بها مع الحرّاس وإدارة السجن. ذكّرتها صديقتها أيضًا بأنها كانت تقلق في زيارتها السابقة لخطيبها من احتمال عدم السماح بإدخال رواية "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور إليه، وبأنها كانت تشعر أن أفكار رضوى عاشور والظروف التي أحاطت بها يمكن أن تمنع روايتها من الدخول، ومع ذلك دخَلَت الثلاثية.
• • •
تمّ المطلوب هذه المرة أيضًا، وتابعَت الصديقة كيف عاشت صديقتها فلانة أيامًا متجدّدة من السعادة كلما مرّ بخيالها أن خطيبها تناوَل قطعة من الشيكولاتة المُرّة التي أرسلتها له، وكيف أنها صنعَت له جدولًا زمنيًا افتراضيًا لالتهام الشيكولاتة بحيث يتناول مرة قطعة محشوّة بالكراميل ومرة أخرى قطعة محشوّة بالبندق ومرة ثالثة قطعة سادة، تمامًا كما أعادت قراءة "ثلاثية غرناطة" صفحةً صفحة بمعدّل تصوّرت أنه يناسب قراءة خطيبها المتأنية. في الواقع كانت فلانة تحاول أن تخلق حبلًا سُرّيًا بل أكثر من حبل سُرّي واحد بينها وبين خطيبها لتطمئن إلى أنه قريب من القلب وإن يكن بعيدًا عن العين. حبّها له يملأ الدنيا وما فيها، ويتمدّد في الهواء الفاصل بين السماء والأرض ويتخلّل حتى طبقات السحاب طبقةً طبقة، ولو لم يكن حبها له بهذا السمّو والتمدّد والانتشار لنفذت إليه ثورة الأهل على حالها المائل، بل ولنفذ إليه شعورها بالحرمان من أن تعيش حياة طبيعية كمثل البنات في نفس عمرها، لكن شيئًا من هذه الثورة ومن هذا الشعور بالحرمان لم ينفذ. وهكذا نضَج حبها لهذا الرجل المسالم على نارٍ هادئة، أحبّت جدًا ذهنه المشطور شطرين بما يجعله شديد العقلانية وشديد الرومانسية في الوقت نفسه. قادر على الاحتفاظ بثباته الانفعالي فلا يتداعى في أصعب المواقف، وجاهز للإجهاش بالبكاء والتحوّل إلى فتافيت في مواقف أخرى، أتراه يملك التحكّم في أزرار عواطفه؟ سألتها ذات يوم صديقتها. وجاء جوابها: بالعكس، لو أنه يجيد هندسة مشاعره ما أحببته أصلًا. إنها تشتاق إليه.. تشتاق إليه .. تشتاق إليه، وهي أصلًا مخلوقة لا تتحلّى بالصبر. تشتاق إليه ليفرج عن كل مشروعاتهما المؤجلّة: الزواج والبيت والسفر وتعلّم اللغة الصينية و... المكتبة التي خططا لتكون بداية مرحلة جديدة من حياتهما، فهو يعجبه مزاجها في اختيار الكتب وهي أيضًا معجبة، لكن هل مازال متحمسًا لهذا المشروع ولكل مشروعاتهما الأخرى؟ مدركة هي أن قسوة التجربة لابد أن تغيّره، لكنها على امتداد شهور التجربة كانت وستظل تطارده بروحه القديمة وشخصيته القديمة وبالأشياء المشتركة بينهما حتى يكون تغييره في الحد الأدنى. دخَلَت في مرحلة الخدَر اللذيذ من مجرد احتمال أن ترى نفسها معه وجهًا لوجه، هو خارج محبسه وهي خارج توترها وكسوفها. وبينما هي تستعد للتحليق من مرحلة الخَدَر اللذيذ إلى السُبات العميق أخذَت تتراءى لها أشياء كثيرة، كان من بينها كتب وأسوار ووجه صديقتها الحميمة وشيكولاتة مُرّة.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات