رأيت في هاتفِ صَديق صُورةً لمنطقةٍ شديدةِ الإضاءة. شريطٌ في نطاقِ العاصمة وضواحيها؛ اختصَّته ملايينُ الشُّموس دونًا عما يُحيط به. الصُّورةُ مَسقَطٌ رأسيٌّ، مُلتقطةٌ من طائرة كما أخبرني، والضوءُ في سُطوعه الهائل مَدعاةٌ للتعجُّب والدَّهشة؛ إذ يَضربُ بأحاديث ترشيد الكهرباءِ عرضَ الحائط.
• • •
المَسقطُ اسمُ مكان من الفعل سَقَطَ وهو مَوضِع وُقوع الشيء. الفاعل ساقطٌ والمفعولُ مَسقوط فيه والمصدر سُقوط، وإذا جاء الحديثُ عن مَسقَط رأسِ فلان أو علان؛ فالمكان الذي شهدَ مَولِده.
• • •
تمضي العمليةُ التعليمية في مَسارٍ مُنحدِر؛ مَسقطٌ لا يُرى منه نُهوض، والحقُّ أن تذبذُبَ القراراتِ وغيابَ الرؤية المُستقبلية وانتهاجَ العشوائية واللجوءَ لغير أهل الخبرة والحصافة؛ عواملٌ تؤدي في مُجملها إلى انهيار أكيد، وتجعل الجهدَ الذي يبذله الطالبُ بلا جدوى.
• • •
إذا كان السُّقوط فشلٌ، فالرُّسوبُ استقرارٌ في القاع؛ والرَّواسب التي تتكوَّن حالَ تفاعل مادتين ترقد كما درسنا بالأسفل، ومثلها يَرقد كثير البشر الذين تفاعلوا مع ظروفٍ شديدة الوعورة؛ أقعدتهم عن الحركة.
• • •
يتعذَّر على المَرءِ بعض المرَّات أن يجدَ الحلَّ لموقفٍ مُؤرقٍ عَصيب؛ يَبيت وقد أُسقِطَ في يَده وعجَزت قريحتُه فلم يَدر ما يفعل. أُسقِط في يدّ كثيرين إزاءَ ما يجري على أرضِ فلسطين؛ الأحداثُ مُفجِعةٌ مُتلاحِقة والإراداتُ مغلولةٌ مُقيدة.
• • •
يَقول مَحمود درويش: سَقطَ القناع.. لا أخوةٌ لك يا أخي، أصدقاءٌ يا صديقي.. لا قِلاع.. لا الماء عندك، لا الدَواء ولا السَّماء ولا الدِماء ولا الشراع.. حاصر حِصارَك.. لا مَفرّ.. سَقطَت ذراعُك فالتقطها واضرِب عدوَّك.. لا مَفرّ.. وسَقطُّت قُربك؛ فالتقطني واضْرِب عدوَّك بي.. فأنت الآن حُر. السُّقوط هنا له مستوياتٌ عدة؛ منها الأخلاقيّ والمعنويّ، ومنها سُقوط الجَّسد نفسِه تحت وطأة الضَّربات، والحاصِلُ رغم قسوته؛ انكشافٌ للزَّيف واصطفاءٌ للحقائق.
• • •
مَسقَطُ المياه هو مُنحدرها، ومَسقطُ النور هو الثَّغرةُ التي ينفذُ منها ليضيءَ بقعةً بعينها، أما مَسقَطُ الهواءِ فذاك المكانُ المُنخفِض الذي يتخلَّله تيارٌ لطيف. صُمِّمَ صَحنُ الدار فيما مَضى كي يغمرَه الضوءُ ويمُرُّ به النسيمُ، وإذا كانت تصميماتُ مِعماريينا في القَّديم جميلةً مُبهجةً ومناسبةً للبيئة؛ فقد تحوَّلنا لشديد الأسفِ إلى مُقلدين وباتت مدنُ الخليج بأبنيتها الزُّجاجِية الصمَّاءِ مثالًا نحتذيه؛ مُتصورين أنها الأعظم وأن نهضتَنا تتعلَّق بمحاكاتها، والحقُّ أن خيبتَنا هي العظيمة؛ فالتقدُّم يعني الابتكارَ في سياقِ الحاجة؛ لا في سياقِ المُباهاة بالوفرةِ.
• • •
يُمارِس بعضُ الأشخاص الذين يملكون حِسَّ المُغامَرة رياضةٌ السُّقوط الحُرّ؛ فيها يلقي الواحد نفسَه من طائرةٍ ولا تنفتح المَظلَّةُ سوى بعد فترةٍ من التهاوي السَّريع، وبعد فتحها تستمرُّ السباحةُ في الفضاء لدقائق حتى الهُبوط إلى الأرضِ بسلام.
• • •
يُقال إن اسمَ "مَسقَط" عاصمة سَلطنة عُمان؛ يعود إلى مَوقِعها الكائن بين عددٍ مِن الجبال، وإلى سُقوطِ أوديتها في الوَسَط؛ لكن كُتُبَ التاريخِ القديمة ترى أن أصلَ الكلمةِ هو "مَسكت" وتلك مُفردةٌ مُشتقةٌ من الفِعل سَكت؛ والسَّببُ المرويُّ أن الصَّمتَ عمَّ أهلها مع وصول الصَّحابة إليها.
• • •
تعجَز بعضُ الأفلامِ عن تحقيقِ الإيراداتِ المَطلوبة في دورِ العَرض، وتُحقّق سقوطًا لافتًا؛ لكن هذا السُّقوطَ لا يعكسُ جودتَها ولا يشي بحقيقتِها، فبعضُ المرَّات يكون التوقيتُ سيئًا ومرات أخرى يكون المزاجُ العام أكثر سوءًا، لا يحتمل سوى ما يغازلُ أحواله المُتعثرة ويُلاقيه على المَوجةِ نفسها.
• • •
"السَّقطة" واحدة من أشهَر رواياتِ المُفكر الفرنسيّ ألبير كامو، وهي عملٌ فلسفيٌّ أقرب للمونولوج؛ إذ يتحدَّث قاضٍ عن سيرته لعابر؛ فيرى القارئ فكرة السُّقوط بمُختلَف تجلياتها. قرأت الروايةَ خلال أعوام الدراسةِ ولم تزل حاضرةً في الذاكرةِ؛ شأنها شأن الأعمال الكبرى وإن هَرِبت بعضُ التفاصيل.
• • •
قد يكون السُّقوطُ فاحشًا بعيدًا عن أيّ مَلمَحٍ للنجاح، وقد يكون مُدويًا يُحدِث كثيرًا من الجَلَبَة ويَجذبُ الانتباه، وهو بعضُ الأحيان مُتوقعٌ مَرئيٌّ على امتداد البَصَر؛ تبشر به المُقدماتُ وتنبه إليه العلاماتُ والإشارات؛ ولا ينجو منه سوى أصحابُ البَصيرةِ السليمة.
• • •
يُمثلُ الإسقاطُ الجَّويّ عملية إنزالٍ لأشخاصٍ أو بضائع في مَنطقة بعينها عن طريق الطائرات. قد يُسقَط الجنودُ ضِمن عملياتٍ عسكريَّة، أو تُسقَط الأطعمةُ وعبواتُ الدواءِ خلال عمليات إغاثة إنسانية، أو تُسقَط المَنشورات التي يستهدف العدوُ من خلالها التلاعبَ بالمتلقيين.
• • •
بدأت حربُ السَّابع من أكتوبر بهجمة جَوية للمُقاومةِ الفلسطينية؛ أسقطت أوهامَ القوةِ والمَنعة، ثم راح مقاتلو اليمن يُسقطون مُسيَّرات أمريكية في سياقِ دعمِهم للمقاومين، ولاحقًا أسقطت هتافاتُ المواطنين الأمريكيين شرعيَّة الرئيس ترامب.
• • •
السَّقطةُ اسمُ المرة الواحدة من الفعل سَقَط، ويُفضَّل ألا تتكرَّر، وأن تبقى في إطار الاستثناء؛ فالمرءُ إن تعدَّدت سقطاتُه صَغُر وهان. بعضُ الأحيان يَصِف الناسُ صاحبَ السلوك السَّيء بأنه سَاقط، ولا عَجَب أن تُطلَقَ كلمةُ "السَّاقطات" على بائعاتِ الهوى؛ في إشارةٍ بلاغية لمَسلك يَنفر منه المُجتمَع ويراه متدنيًا.
• • •
يَسقُط القطُّ من مكان مرتفع فيمتصُّ جسمُه الصَّدمة ويعتدلُ في سرعة ويستأنف طريقه؛ وكأن شيئًا لم يكن. الجهازُ الحركيُّ للقطط فائقُ الحساسِية ومُرونتها مَضربُ الأمثال، وقدرتها على تغيير اتجاهاتِها في الهواءِ تثير الإعجاب. يُقال إن للقططِ أرواحًا سَبع تكفلُ لها النجاة؛ ولبعض البشر ولا شكَّ مثلها؛ وإن اختلفت المَوهبة.
• • •
انتشرت ذات يوم صيحةُ البناطيل الجينز ذات الوَسَط السَّاقط؛ التي تكاد تترك جسدَ مُرتديها إلى الأرض. أثارت استياءَ معظم الكبار وفتنت الصِغار، وباتت في آنٍ واحدٍ مَوضِعَ استهزاءٍ وتفاخُر؛ مثلها مثل كثير التفاهاتِ التي صرنا ننشغلُ بها وندخلُ المَعارِك في سياقها، مُتشاغلين عن كبريات الأمور التي نعجز عن التعاملِ معها والتصرُّف إزائها.
• • •
يَسقطُ الواحد من نَظر الآخرين ما خان عهدَه وباع شرفَه وضميرَه، وما استباح لنفسِه التنكيلَ بمُستضعَف أو تقاعَس عن نَجدةِ مُستجير، وتكون استعادته للثقة حينها بمنزلةِ أمرٍ عَسير، واسترجاعه للمكانة المفقودة من المُستحيل؛ فبعضُ الأشياء ما انكسرت تعذَّر جَبرها.