اللاجئون السوريّون.. والأيديولوجيا السكّانيّة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللاجئون السوريّون.. والأيديولوجيا السكّانيّة

نشر فى : الجمعة 2 يونيو 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : الجمعة 2 يونيو 2023 - 8:55 م
نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب حازم صاغية، يشير فيه إلى استخدام بعض الساسة اللبنانيين والأتراك لعبة الأرقام مع قضية اللاجئين السوريين لنسب فشلهم السياسى والاقتصادى إلى اللاجئين وترحيلهم. وأضاف الكاتب أن التعويل على لعبة الأرقام هذه ليس مستحدثا بل يعود إلى عصر الثورة الصناعية، إذ توجس البعض من توافد الريفيين بكثرة إلى المدن للعمل فى الصناعة مما يؤثر فى جودة حياة قاطنى المناطق الحضرية. ولكن ما حدث بعد أن حصدت الثورة الصناعية ثمارها أثبت عكس تلك المخاوف. المراد أن حياة البشر ليست مجرد أرقام يعلق عليها البعض إخفاقهم فى حل الأزمات.. نعرض من المقال ما يلى.
بينما كان بعض اللبنانيّين مستغرقين فى مزادهم العلنى: هناك فى لبنان مليون سورى، بل ثلاثة ملايين، وفى بعض الكلام الشعبى أربعة، ظهر أتراكٌ كلامهم يثير الغيرة والحسد: هناك فى تركيّا عشرة ملايين سورى، كما قال كيليتشدار أوغلو، الذى نافس رجب طيّب أردوغان على الرئاسة، بل هناك 13 مليونا، كما زايد عليه أوميت أوزداغ، رئيس حزب «الظَفر».
لقد قُذفت كرة الأرقام إلى أعلى يصعب أن يُطال. والحال أنّه ليس واضحا ما إذا كانت المبالغة الفلكيّة للسياسيَّين التركيّين ستشجّع زملاءهما اللبنانيّين على المضى قدما، رغم كلّ شىء، فى ما بدأوه، أم أنّها ستُحبطهم وتنبّههم إلى الطابع الفضائحى للعبةٍ تفضح لاعبها.
المؤكّد أنّ لغة الأرقام منظومة وعى قائمة بذاتها، وفى الزمن الحديث كانت الثورة الصناعيّة أوّل استظهار لاشتغالها الموسّع. فوفادة الريفيّين إلى المدن بحثا عن عمل فى الصناعة، وإقامتهم فى أحياء فقيرة مكتظّة، أشعلا سائر المخاوف لدى مَن أذهلهم ذاك التحوّل الجبّار الذى اخترق حياتهم ولم يقووا على تأويله.
فى 1798 حوّل الاقتصادى والديموغرافى الإنجليزى توماس روبرت مالثوس رعبه من السكّان إلى نظريّة: إنّهم ينمون هندسيّا (1 ــ 2 ــ 4) فيما الغذاء ينمو حسابيّا (1 ــ 2 ــ 3). لهذا على البشر أن يختاروا بين مجاعة كونيّة وإجراء جذرى يخفض السكّان.
لكن حين طرحت الثورة الصناعيّة ثمارها، فتحسّنت أوضاع المواطنين وارتفعت معدّلات أعمارهم، بدأ الغذاء ينمو هندسيّا وعدد السكّان ينمو حسابيّا. السيناريو المالثوسى صار يندرج فى تاريخ الأخطاء المشوبة بالنوايا السيّئة.
بعد أقلّ من قرن، عبّرت «الداروينيّة الاجتماعيّة» عن كره السكّان، بـ«العلم» هذه المرّة بدل الاقتصاد. لقد نقلت القوانين التى وضعها تشارلز داروين عن الحيوان والنبات عبر ملايين السنين لتطبّقها على البشر فى حُقب زمنيّة قصيرة ومضغوطة. فمعادلة «البقاء للأنسب»، وفق صيغة الفيلسوف والعالم البريطانى هيربرت سبنسر، تقول إنّ الأضعف بين السكّان سوف يدفعون أثمان «الصراع على الوجود»، وما الحياة سوى هذا الصراع إيّاه. وعلى نطاق واسع استُخدمت «الداروينيّة الاجتماعيّة» تبريرا للتفاوت الاجتماعى والتوسّع العسكرى والعنصريّة، وبالبناء عليها نشأت الخرافة التى سُمّيت «علم تحسين النسل» (eugenics).
فى الحقبة نفسها تفنّن كتّاب وأدباء كثيرون فى نعت الكثرة بأنّها الخطر الذى تقصفنا به طبيعة هائجة ومجنونة.
الكاتب الفرنسى الموصوف بالموسوعيّة، غوستاف لوبون، نسب إلى «الحشد» صفات التدمير والعجز عن التفكير والانقياد وراء العواطف. وفى مقابل الميل الذى ساد حينذاك إلى التنظيم النقابى والحزبى، بما يدافع عن مصالح الأفقر والأضعف فى الزمن الصناعى، رأى لوبون فى «الحشد البسيكولوجى» سببا لتخدير الوعى وإحلال الغرائز الجمعيّة محلّ العقل.
ولئن قرأ كبار ديكتاتوريّى القرن العشرين لوبون وأعجبوا به، ففى الثلاثينيات أدلى بدلوه الفيلسوف الإسبانى جوزيه أورتيغاى غاسّيت المرعوب من «حكم الجماهير». ذاك أنّ «حياة العاميّين»، بما تنطوى عليه من بربريّة وبدائيّة، غير «الحياة النبيلة»، فيما جذور الهلع الاجتماعى والثقافى لا تعود إلاّ إلى الانفجار السكّانى الذى أعقب الثورة الصناعيّة.
ولم يكن عديم الدلالة أنّ الكاتب والروائى الإنجليزى إتش جى ويلز (1866 ــ 1946) الذى يُعدّ «أب الخرافة العلميّة»، كان أكثر من أثّروا فى مصطفى كمال أتاتورك الشابّ. فالتزايد السكانى، عند ويلز، يرقى إلى كارثة تستولى على الحضارة وتهدّدها بديكتاتوريّة الحشد. وربّما كانت الخرافة العلميّة الأهمّ لويلز هندسته الاجتماعيّة لجمهوريّة فاضلة أخرى يتولّى فيها المهندسون والتقنيّون خفض أعداد السكّان.
وبعد الثورة الصناعيّة، بات السياسيّون الديماغوجيّون يواظبون على إيقاظ المخيّلات الشرّيرة بإضافة الأصفار إلى الأرقام. واستنجادا بعمق الخرافة التى لا تزال مقيمة فينا، شاع تشبيه الجموع بالحشرات والطفيليّات والبكتيريا والأمراض المُعدية، وهى الأوصاف التى تشبه ما استخدمه هتلر ومحاربوه فى ما خصّ اليهود. فهم يتكاثرون، يتوسّعون، يصيرون أخطبوطا، ينتشرون ويحتلّون المكان، يقضمون الموارد، يسيلون كالماء ويتصلّبون كالحجر، وهم دائما وأبدا يتناسلون كالفئران. لكنّ الفأر الذى فيهم يتعايش أحسن التعايش مع الأفعى ومع الثعلب والضبع وعدد لا يُحصى من تلك الكائنات التى تطلع من تحت الأرض كما تهبط من فوقها قبل أن تنقضّ علينا بأنياب تقطر دما.
وهذه المدرسة التى تلخّص البشر إلى عدد تعمل أيضا فى معرض الامتداح الذاتى فتجعله امتهانا للذات. فـ«المليون شهيد» فى الجزائر أمٌّ خصبة البطن لأفكار وصور سقيمة أخرى. ويذكر اللبنانيّون مثلا كيف تحدّث فى الثمانينيات زعيم «حركة أمل» اللبنانيّة نبيه برّى، فرأى أنّ المسلمين لطالما خاضوا فى السرّ «حربا تناسليّة» ضدّ «الهيمنة المارونيّة». وعلى مدى عقود ظهر بيننا شعراء يهدّدون العالم بـ«أمّة السبعين مليونا» ثمّ «التسعين مليونا». لكنْ منذ بدأ عدد العرب يتجاوز المائة مليون، لم تعد عروض الشعر وتفعيلاته تتّسع للأرقام الجديدة.
وحياة البشر، فى آخر المطاف، ليست مكتب إحصاء بيروقراطى، ولا مستشفى لمداواة العجز الذى يحسّه سياسى هنا وكتلة سكّانيّة أو جماعة حزبيّة هناك. وفى الحالات كافّة، فإنّ ردّ الأجساد والنفوس إلى أرقام، وربّما إلى جثث، لا يمكن أن يكون أخلاقيّا. وهو بالطبع لا يمكن أن يكون صائبا، لكنّه أيضا لا يستطيع أن يكون خاطئا، لوقوعه فى ما وراء الصواب والخطأ الإنسانيّين.
اليوم، عدد السوريّين هو عنوان الانتهاك الأبرز على هذا الصعيد.
التعليقات