عن مسئولية الفرد فى العمل العام - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن مسئولية الفرد فى العمل العام

نشر فى : الأحد 2 يوليه 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : الأحد 2 يوليه 2017 - 9:45 م

«تسعون مليون خبير سياسى!».. «اتركوا أمور السياسة للخبراء».. «شعب يفتى فى كل شىء».
تعليقات نقرأها ونسمعها كثيرا على صفحات التواصل الاجتماعى. تعكس بوضوح ثقافة أبوية فى تناول الشأن العام فى مصر منذ ثورة ١٩٥٢. ثقافة قائمة على انتقال القرار السياسى إلى السلطة، مقابل مسئولية الدولة عن الفرد فيما يخص خدماته الأساسية من تعليم وصحة وسكن.. إلخ، وهو أمر استطاعت الدولة أن تحققه فى فترة ما قبل نكسة ١٩٦٧ حيث تولت بالفعل العملية التعليمية المجانية بمراحلها، وبنت شبكة من الوحدات الصحية خدمت معظم القرى المصرية، واستثمرت فى الصناعة الوطنية. مثل هذه السياسات جعلت الشعب يتقبل غلق المجال العام، وهو مجال كان قد وصل إلى مرحلة من النضوج تعتبر متقدمة بالنسبة لمثيلات مصر من البلدان النامية فى أوائل القرن العشرين، بالرغم من الاحتلال البريطانى والذى قوى رغبة المصريين بالتمسك بمقاليد أمورهم فى مواجهة المحتل. فمصر شهدت حراكًا سياسيًا قويًا من أقصى اليمين إلى أقصى يسار المسطرة السياسية، وباتت العائلات المصرية ذات «الحسب و النسب» فى المدن والقرى، أو طلبة الجامعات (وحتى الثانوى)، أو الفلاحين فى القرى حتى من لم يحظ منهم بتعليم، بات الكثيرون لهم رأى وتوجه سياسى مرتبط اما بحزب أو بأيديولوجية سياسية. وكان العمل السياسى ينظر له باعتباره عملًا وطنيًا، وكان صاحب الرأى السياسى شخصا يتم تقديره واحترامه فى المجتمع على أساس أنه مهموم ومعنى بالعمل الوطنى (العمل العام).
كان المجتمع المدنى له احترام، والانخراط فيه مصدر لتقدير المجتمع، فكانت كثير من العائلات الغنية تشارك (نساءً ورجالًا) فى الجمعيات الخيرية (لم يكن تطور الفكر التنموى بعد، إلا أنهم فى الحقيقة كانوا كثيرا ما يعملون فى مجالات تنموية تحت مفهوم خيرى)، فتم إنشاء جمعيات مثل المساعى المشكورة والتى أنشئت وأدارت كثيرًا من مدارس المنوفية وطورتها لتمتد إلى المرحلة الثانوية ولتشمل تعليم الفتيات حتى أصبحت محافظة المنوفية أقل محافظات مصر أمية. وجمعية تحسين الصحة، والمبرات المختلفة والتى قدمت خدمات صحية، ومشروعات لدعم الأسر الأكثر فقرا، بالاضافة إلى دور الأطفال مجهولى النسب. وكان للأوقاف دور مهم فى تطوير العمل الأهلى وضمان استدامة الخدمة عبر الأجيال. هذا الانخراط فى العمل العام طور الشخصية المصرية وأدى لنضوج الخيار السياسى، والأهم أنه قوى الاحساس بالانتماء والملكية.
***
منذ ١٩٥٢ وحتى يومنا هذ أغلق المجال العام بدرجات متفاوتة، ففى أعقاب أحداث ١٩٥٢ تم حل الأحزاب السياسية، وسيطرت الدولة على النقابات، وضمت أراضى الأوقاف وأصولها إلى الدولة وتحت إدارتها. بالإضافة إلى هذا لعب الاعلام دور مهم فى زرع بذرة الشك من أى شخص لديه الجرأة لاختراق هذه المجالات، فبدأ بتشويه أى معارض سياسى باتهامه بأنه اقطاعى، أو ملكى، أو شيوعى ملحد، أو عميل صهيونى. تطور هذا التشويه مع الوقت حسب الحقبة السياسية، وخاصة مع عزوف معظم الشعب عن العمل السياسى خوفا من عواقبه ونفس السيناريو حدث فى النقابات العامة والعمالية. أما العمل الأهلى فقد وقع تحت سلسلة من القوانين المنظمة (وهو أمر طبيعى ومطلوب لضبط أى عمل فيه مال عام)، إلا أنها قوانين بالرغم من أنها أخضعت الجمعيات للرقابة المالية والادارية والفنية للدولة، لكن روح القوانين المتتالية ازداد فيها روح الشك وافتراض سوء النية، وهو ما أخاف كثيرا من العاملين فى المجال خاصة أنه عمل اختيارى تطوعى.
منذ نكسة ١٩٦٧ مرورا بحرب الاستنزاف ثم انتصار ١٩٧٣ وبعدها الانفتاح «السداح مداح»، لم تستطع الدولة الحفاظ على دورها «الأبوى» فى لعب دور الأب العائل، وبالتالى لم يعد من المنطقى أن تستأسر باتخاذ القرار، خاصة لأجيال ولدت فى الثمانينيات والتسعينيات فى وقت ضعفت فيه هيبة الدولة المصرية كثيرا، وأصبح ما يربط الشاب بمصر ليس ما تقدمه له من فرص وإنما ما ورثه من انتماء عن الأجيال السابقة، بالاضافة إلى انفتاح الجميع عبر النت على دول العالم الأخرى أصبح من الصعب معه بيع فكرة الدولة الأبوية، أو المجتمع الأبوى، للشباب سواء من النساء أو الرجال.
***
بعد ثورة ٢٥ يناير ترجمت مشاعر الحب والفخر والوطنية لدى البعض فى الانجراف فى الحياة السياسية، سواء بالمشاركة فى حركات أو أحزاب أو تيارات، أو فى متابعة الأحداث وإبداء الآراء،. الثورة فجرت احساسا عميقا بالملكية كان غائبا عند قطاعات واسعة من المجتمع. وفى أواخر ٢٠١١ مع صعود نجم الاخوان المسلمين سياسيا، وزحف الخوف من حكم فاشى دينى على المجتمع المصرى، بدأ الاعلام فى العودة إلى بث رسائل تنتقد انخراط «الشباب» أو «الهواة» أو «غير المسيسين» فى السياسة أو العمل العام، وبدأت حملات مكثفة لتشويه كل من حاولوا دخول المعترك السياسى فى هذا الوقت، واتهمتهم بأقسى التهم بدءا من الغباء مرورا بالخيانة والفساد والأجندة الشخصية، وهى نبرة التقطها من كانوا ضد الثورة من أول يوم، بالاضافة إلى من كرهوها بسبب فشلها فى تحقيق أحلامها وشعاراتها حتى لو كانوا شاركوا فيها.
إلى كل هؤلاء أحب أن أذكرهم أن سبب مجىء الاخوان إلى الحكم فى مصر أنهم كانوا القوة السياسية الوحيدة المنظمة على الساحة. وأن سبب فشل القوى السياسية التى تكونت بعد الثورة هو أولا: أن هذه القوى لا تنزل علينا من الفضاء ولا تنتقل إلينا من كوكب آخر، وأنها فى أى بلد مكونة من أفراد من الشعب، وأن شعوب الدول المتقدمة فيها نسب عالية من المشاركة السياسية، وأنه بدون مثل هذه المشاركة لا تتكون الأحزاب. ثانيا: أن هذه الأحزاب تم اشهارها بعد ثورة ٢٥ يناير ثم دفعت دفعا للمشاركة فى معارك انتخابية متتالية بعد أشهر من انشائها فيما كانت لا تزال تجمع أعضاء وتبلور برنامجا وتتفق على لائحة (وهى أمور يمكن أن تأخذ سنوات). وبالتالى من النفاق أن يقوم شخص بانتقاد الأحزاب إذا لم يشارك فى العملية الحزبية وهو واجب وطنى كان أجدادهم يمارسونه وبالتالى فهو ليس مطلبًا صعبًا، خاصة أن كثيرًا ممن ينتقدون هم ممن تعاطفوا مع الثورة وشاركوا فيها حتى ولو فى آخر الثمانية عشر يوما عندما علت روح المشاركة والأمل فى مستقبل أفضل ولاح النصر فى الأفق، أى أن العبء الأخلاقى فى عدم استكمال المسيرة السياسية التى بدأوها أو شاركوا فيها عندما مشوا فى مسيرات والتقطوا الصور وهم بالأعلام أمام الدبابات، ثم عادوا يوم ١١ فبراير إلى بيوتهم وعملهم، وعزفوا عن المشاركة فى استكمال المسار، هذا العبء الأخلاقى وما ترتب عليه من فراغ فى الساحة السياسية الذى لم يملؤه إلا الاخوان المسلمون، هو وزر يتحمله كل من لم يشارك فى ايجاد بديل، وبالتأكيد ليس من شارك فى ايجاده (ولهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لكن على الأقل لم يتركوا سلاحهم فى الميدان ويعودوا إلى دفء بيوتهم ليمصمصوا شفاههم وينتقدوا من شمروا أكمامهم وحاولوا حتى لو فشلوا).
***
فى الحقيقة أنى أتفهم أن تصرف هؤلاء هو نتاج للموروث الاجتماعى المرتبط بعدم احترام العمل العام ولا الاستثمار فيه، والحقيقة أن الثقافة الأبوية والمسيطرة على مؤسسات الدولة وعلى الأسرة المصرية التقليدية والتى تطلب من «الأبناء/الشعب» أن ينصاعوا لأوامر وقرارات «الأب» دون نقاش أو تفكير، وتتضرر جدا من أى نقد أو لوم أو عتاب، نفس هذه العقلية تطلب من «الابن/ الشعب» الانتماء والولاء لوطنه، وتستعجب من مظاهر عدم الانتماء، من عدم اتقان للعمل مرورا بعدم المحافظة على الممتلكات العامة وصولا إلى الرغبة فى الهجرة بأى ثمن، فى حين أن هذه العقلية ببساطة حولت المجتمع المصرى من جاذب للمشاركة فى العمل العام والرغبة فى العطاء إلى مجتمع يبحث عن طرق للحصول على أكبر مكسب مقابل أقل عطاء.
أجيال من المصريين حرموا من لذة العطاء، وخبرة ممارسة العمل العام، وحرمت مصر منهم. إن الاستمرار فى نشر ثقافة «الأب» العارف بكل الأمور و«الابن» المطيع المنصاع للأوامر والمتحمل لنتائج قرارات «الأب» هو وهم، فى عصر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعى لا يستطيع أحد منع التفكير، أو ابداء الرأى، أو النقد. الأهم أن منع الحوار المجتمعى، أو تجاهله، هو اهدار لأهم ثروة لدى أى بلد، وهى احساس شعبها بملكيته لها، ورغبته فى العطاء والمشاركة فى بنائها.
فتح المجال العام مسئولية الدولة، والمشاركة فى العمل العام مسئولية وواجب وطنى على كل فرد.

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات