أفسح الانهيار المدوى لما كان يعرف بالاتحاد السوفييتى، وما صاحبه من أفول للحرب الباردة الأولى عام 1991، متسعًا فى قاموس العلاقات الدولية، لاعتماد حزمة من الاصطلاحات المستحدثة. لعل من أبرزها «الشراكة الاستراتيجية»، التى تعكس نمطًا ممنهجًا من التعاون الوثيق بين دولتين أو أكثر، يغطى شتى مجالات التعاون. كما يشمل التنسيق، التفاهم، وتبادل وجهات النظر، بصفة مستمرة، حول مختلف الملفات الدولية، أو القضايا محل الاهتمام المشترك.
يقتضى تفعيل الشراكات الاستراتيجية، استحداث آليات كمثل «الدبلوماسية الرئاسية»، فضلًا عن تدشين هياكل مؤسسية على شاكلة: «المجالس الرئاسية العليا المشتركة»، أو «مجالس الشراكة الاستراتيجية»، أو «مجالس التنسيق المشتركة». ويعتلى قيادة هكذا هياكل، رؤساء الدول، أو الحكومات، فيما تعكف على عقد لقاءات دورية، تناقش سبل تطوير العلاقات على الصعد كافة. كما تضم فى عضويتها كبار المسؤولين، رجال الأعمال، ونفر من الخبراء وأهل الاختصاص. على أن تنبثق عنها لجان فنية نوعية متخصصة، تعمل على ضمان متابعة تنفيذ توصيات ومخرجات مباحثات تلك الآليات والهياكل.تعطى الهياكل المؤسسية المتمثلة فى :المجالس الرئاسية العليا، أو مجالس الشراكة الاستراتيجية، أو مجالس التنسيق المشتركة، قوة دفع هائلة لمساعى النهوض بالعلاقات بين الدول. لاسيما وأنها تضطلع بمهمة ترجمة رؤية القيادات السياسية، لما يجب أن تكون عليه تلك العلاقات من تكامل وتعاضد، خلال زمن قياسى، مهما كانت التحديات. فبفضل الرعاية الدءوبة، والتفاعل المباشر من لدن تلك القيادات، يتسنى لتلك المجالس تسريع وتيرة التقارب، تعميق أواصر التعاون البناء، تذليل العقبات، وتجاوز البيروقراطية الإدارية .
إبان زيارته الأخيرة للقاهرة فى فبراير الماضى، وقع الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، مع نظيره المصرى عبدالفتاح السيسى، على الإعلان المشترك بشأن إعادة التئام اجتماعات «مجلس التعاون الاستراتيجى رفيع المستوى» بين القاهرة وأنقرة. وهو المجلس الذى كان البلدان قد اتفقا، فى نهاية العام 2010، على تشكيله ؛ توسلا للعروج بعلاقاتهما الثنائية، آفاقًا أرحب، فى شتى المجالات. وأثناء توقيعهما اتفاقًا بهذا الصدد، اعتبر وزير الخارجية المصرى، آنذاك، أحمد أبو الغيط، ونظيره التركى، أحمد داوود أوغلو، الأمر خطوة بناءة على طريق تطوير العلاقات بين بلديهما، ونقلة نوعية فى مسيرة التعاون والتنسيق الاستراتيجى بين أهم قوتين إقليميتين فى منطقة الشرق الأوسط.
ما كاد الرئيس التركى أردوغان، يتم فى فبراير الماضى، أولى زياراته للقاهرة منذ العام 2013، حتى بدأ يترقب زيارة نظيره المصرى، عبدالفتاح السيسى، إلى أنقرة، وانعقاد الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجى رفيع المستوى. وخلال الزيارة الوشيكة لتركيا، والتى ستكون الأولى للسيسى منذ العام 2014، سيترأس الزعيمان فريقى بلديهما فى أول اجتماع للمجلس. الأمر، الذى يعد إيذانًا بتدشين حقبة استثنائية فى تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين. يتعزز خلالها التفاهم المتبادل والتشاور البناء، حول الملفات الخلافية والقضايا ذات الاهتمام المتبادل. كما يتفتق فى رحابها اعتماد مقاربات دبلوماسية وتنموية لتسوية النزاعات وحلحلة الأزمات. بما يفضى، فى نهاية المطاف، إلى تجاوز البلدين زمن الجفاء، تقليص حدة التصعيد المتنامى فى أرجاء الإقليم، وإرساء دعائم الأمن والاستقرار فى ربوع المنطقة.
رغم أن علم العلاقات الدولية، الحديث نسبيًا، قد رصد نماذج بارزة للدبلوماسية الرئاسية، أو «دبلوماسية القمة»، على مدى التاريخ البشرى؛ يروق لخبراء كثر التأريخ لظهور ذلك اللون من الدبلوماسية، بمفهومه الحديث، بحلول ستينيات القرن الماضى. حيث ارتبطت إرهاصاتها الأولى بالأنشطة الدبلوماسية، التى كان يقوم بها، آنذاك، رؤساء القوتين العظميين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتى السابق. وبعدها بثلاثة عقود، حاول الرئيس الفرنسى الأسبق، جاك شيراك، اتباع النهج ذاته، لتسوية بعض النزاعات الإقليمية والأزمات الدولية، عبر إجراء محادثات مباشرة مع نظرائه من قادة دول العالم. ومع بداية الألفية الثالثة، هدأت وتيرة الدبلوماسية الرئاسية، إلى حد ما، حتى كادت أن تنحصر، خلال الأعوام الأخيرة، فى أروقة المحافل والمنتديات الإقليمية والدولية، وفعاليات القمم الجماعية للمنظمة الأممية.
تفسح طبيعة نظام الحكم فى كل من مصر وتركيا، متسعًا رحبًا للدبلوماسية الرئاسية. حيث تتبنى كلتا الدولتين نظام حكم رئاسى، يلعب فيه الرئيس دورًا محوريًا، فيما يخص بلورة وتنفيذ السياسة الخارجية. فمنذ إعلان قيام الجمهورية فى مصر عام 1953، تضطلع الدبلوماسية الرئاسية بدور مركزى فى سياسة البلاد الخارجية، من خلال تحركات ومبادرات الرئيس المنتخب. وقد حدد الدستور المصرى لعام 2014، والمعدل سنة 2019، صلاحيات رئيس الدولة، لجهة صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية. فحسب المادة 151، يمثل الدولة فى علاقاتها الخارجية، يبرم المعاهدات، يصادق عليها بعد موافقة مجلس النواب. ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف، وما يتعلق بحقوق السيادة.. وتنص المادة 152، على أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يعلن الحرب، ولا يرسل القوات المسلحة فى مهام قتالية خارج حدود الدولة، إلا بعد أخذ رأى مجلس الدفاع الوطنى، وموافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثى الأعضاء. فإذا كان مجلس النواب غير قائم، يجب أخذ رأى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وموافقة مجلسى الوزراء، والدفاع الوطنى. ووفقًا للمادة 153، يعين رئيس الجمهورية الموظفين المدنيين والعسكريين، والممثلين السياسيين، ويعفيهم من مناصبهم، ويعتمد الممثلين السياسيين للدول والهيئات الأجنبية. ومنذ انتخابه رئيسًا، للمرة الأولى، عام 2014، يجسد الرئيس، السيسى، نموذجًا ناصعًا للدبلوماسية الرئاسية النشطة. حيث قام بما يقرب من 150 زيارة خارجية، طاف خلالها أكثرمن ستين دولة، كما استضاف على أرض الكنانة، زهاء ألف اجتماع مع قادة ومسئولين من مختلف دول العالم.
أما فى تركيا فقد شملت التعديلات الدستورية، التى وافق الناخبون الأتراك عليها فى أبريل عام 2017، 18مادة من دستور العام 1982. كان من أهمها: اعتماد النظام الرئاسى فى الحكم، بدلًا من النظام البرلمانى، الذى كان سائدًا منذ ولادة الجمهورية التركية الحديثة عام 1923. وبموجب تلك التعديلات، اجتمعت لرئيس الدولة مهام وصلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية معًا، بعدما آلت إليه جميع الاختصاصات، التى كانت من نصيب رئيس الوزراء فى النظام البرلمانى.
ومنذ عام 2014، ودع إردوغان، منصب رئيس الحكومة، الذى شغله طيلة عشرة أعوام متتالية، ليتولى رئاسة الدولة، الذى كان، حتى ذلك الحين، منصبًا شرفيًا. وتحدد المادة 104 من الدستور التركى، سلطات رئيس الجمهورية، بحيث يتولى إرسال ممثلين عن الجمهورية إلى الدول الأجنبية، ويستقبل ممثلى البعثات الأجنبية إلى تركيا. كما يصادق على المعاهدات الدولية، ويوافق على نشرها. ويعرض القوانين المتعلقة بتغيير الدستور على استفتاء شعبى، إذا اقتضت الضرورة. ويحدد سياسات الأمن القومى، ويتخذ التدابير اللازمة. يمثل منصب القائد العام للقوات المسلحة باسم مجلس الأمة التركى الكبير، أو البرلمان. يتخذ قرار إعلان الحرب، أو توجيه القوات المسلحة لأداء مهام محددة، خارج البلاد.
يرتهن مستوى نجاح الدبلوماسية الرئاسية بمدى قوة القيادة السياسية، رحابة خيالها السياسى، قدرتها على تفعيل المشارب المتنوعة للدبلوماسية، مع ابتكار محاور وآليات إبداعية للسياسة الخارجية. الأمر الذى من شأنه ضمان حماية مصالح الدولة، وصيانة سيادتها وأمنها القومى، بمختلف أبعاده.
لما كان الرئيسان المصرى والتركى يتمتعان بحظ وافر من المؤهلات آنفة الذكر، تنعقد الآمال على تنشيط الدبلوماسية الرئاسية، وإعادة تفعيل المجلس الاستراتيجى رفيع المستوى بين القاهرة وأنقرة، لتأمين ولوج علاقاتهما زمن الشراكة الاستراتيجية الشاملة والمستدامة.