لا أعرف هل لاحظ بعضنا أن روسيا ــ أو الاتحاد السوفييتى ــ التى كنا نعرفها فى الخمسينيات والستينيات، وحتى منتصف السبعينيات أيام أندريه جروميكو خروتشوف وليونيد برجنيف، قد اختلفت تماما عن روسيا سيرجى لافروف وميدفيديف وفلاديمير بوتين الآن؟!.
تطورات الأحداث فى ملف علاقات البلدين منذ سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء فى أكتوبر الماضى، وحتى هذه اللحظة، تشير إلى تغير جذرى فى طريقة التفكير الروسية.
فى الماضى كانت موسكو السوفييتية أكثر عقائدية، كانت رومانسية إلى حد كبير، تدعمنا بصورة شبه مطلقة مادمنا قريبين من معسكرها الشرقى الاشتراكى المناهض وقتها للمعسكر الغربى الرأسمالى بزعامة الولايات المتحدة. كانت تعطينا القمح والأسلحة بشروط ميسرة جدا، بل وعبر صفقات مقايضة بسلع مصرية.
الآن موسكو البوتينية مختلفة، فى اللحظة التى سقطت فيها طائرتها وقتل أكثر من ٢٢٤ روسيا كانوا على متنها، أوقفت الرحلات والطيران، ليس إلى شرم الشيخ فقط، بل إلى كل المطارات المصرية، وقامت بإجلاء كل رعاياها من مصر فى ظرف أيام.
روسيا أو الاتحاد السوفييتى فى الستينيات، قامت بإيفاد خبراء وطيارين للمساعدة فى بناء حائط الصواريخ المصرى لمنع طيران العدو الصهيونى من العربدة فى السماوات المصرية، وسقط شهداء روس دفاعا عن الأرض المصرية. والسلاح الذى انتصرنا به فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ كان معظمه من الاتحاد السوفيتى.
روسيا اليوم اتخذت قرارا صادما للمصريين حينما قررت قبل أيام وقف تصدير بعض الحاصلات الزراعية المصرية إليها بحجة أنها مصابة ببعض الفطريات، لكن السبب الجوهرى كان هو القرار المتسرع الذى اتخذته الحكومة المصرية بوقف استيراد القمح الروسى المصاب بأى نسبة من فطر الأرجوت. وعندما أوقفنا نحن هذا القرار العجيب قررت روسيا قبل أيام إعادة استقبال الصادرات الزراعية المصرية.
ما هى الفكرة من كل هذا الكلام السابق؟!.
الفكرة باختصار أن بعضنا لايزال يتعامل مع روسيا وغيرها من الدول بمفهوم رومانسى عاطفى لم يعد موجودا فى معظم العالم.
بعضنا لايزال يتخيل أشياء لم تعد موجودة فى العلاقات الدولية الآن.
هل نلوم روسيا أنها تبحث عن مصالحها، أم نلوم أنفسنا؟!.
الحقيقة أنه يصعب ذلك، لأن دور أى حكومة هو أن تفتش وتعظم كل ما يهم مصالح شعبها.
روسيا تتصرف مثل غيرها من الدول بمنطق عملى نفعى براجماتى، لا يمكن لأحد أن يلومها عليه، وبالتالى فإن الذى يحكمها فى كل تحركاتها وقراراتها هو المصالح ثم المصالح ثم المصالح!.
الذى ينبغى أن نلومه هو من اتخذ قرارات ارتجالية فى ملف القمح، من دون أن يدرك عواقب قراره، وجعلنا نبدو أمام العالم كمن يتخذ قرارات عشوائية متسرعة، ثم يقوم بتعديلها بعد أيام قليلة، والنتيجة النهائية أن صورتنا تشوهت ودفعنا ثمنا فادحا، بسبب تراجعنا المهين فى ملف الأرجوت.
هل نلوم روسيا على موقفها المتردد جدا فى إعادة سائحيها إلى مصر؟!
يمكننا أن نفعل ذلك، لكن أغلب الظن أن موسكو استخدمت هذا الكارت ببراجماتية شديدة أيضا تصل إلى حد الانتهازية. هى حاولت مرارا وتكرارا الحصول على صفقات أخرى من ملفات مختلفة قبل أن تتخذ قرار إعادة سائحيها. سمعت من بعض المطلعين على هذا الملف، أن موسكو ربطت بين التقدم فى هذا الملف، والتقدم فى ملفات محددة مثل حسم ملف المحطة النووية فى الضبعة، وصفقات أخرى. وتصريحات وزير نقلها قبل أيام بان عودة السائحين هذا الشهر مجرد إشاعة يعزز هذا الانطباع.
المشكلة الحقيقية موجودة لدينا نحن المصريين، حينما نتصرف برومانسية منقطعة النظير، وكأننا حبيبان فى علاقة غرامية يشربان عصير الليمون بالنعناع تحت الأشجار الوارفة فى كازينو على النيل!.
علاقات الدول لا تقوم على المبادئ بل على المصالح، فى كل الأوقات والظروف مع استثناءات نادرة.
الكلمات السابقة ليست انتقادا لروسيا، بل ربما هى انتقاد أكثر لطريقة تفكيرنا العاطفية البسيطة المجردة، التى تجعلنا ندفع أثمانا فادحة وباهظة.
نحتاج إلى أن نتصرف بصورة عملية طبيعية كما تفعل معظم دول العالم، وأن نتوقف عن التفكير الرومانسى والعاطفى.