سينما المكان - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سينما المكان

نشر فى : السبت 2 ديسمبر 2017 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 2 ديسمبر 2017 - 8:35 م

يلخص الفيلم السورى «مطر حمص« للمخرج جود سعيد وضعا شائكا اتفق فيه الجميع على ألا يتفقوا، وحمل كل طرف فى قلبه رواية مختلفة عما جرى وعن طبيعة الأحداث. منذ عروضه الأولى سواء فى المهرجانات أو داخل سوريا، والفيلم يثير زوبعة من ردود الفعل المتباينة، يعلو فيها أحيانا صوت المعارضة التى تتهم المخرج بموالاة النظام، استنادا على أنه عمل تحت مظلة وزارة الثقافة وكون الفيلم من إنتاج المؤسسة الرسمية للسينما، وعلى سيرته الشخصية كابن ضابط كبير فى الجيش السورى أيام احتلال لبنان، وعلى موضوعات أعماله السابقة مثل فيلمه الأول «مرة أخرى« (2008)، الذى يروى وقائع ما بين اجتياح 1982 وحرب 2006، فى محاولة لإثبات أن اليد السورية كانت دائما ممدودة للبنان، مع كل اعتداء اسرائيلى.
***
وبالفعل لم ينتقد «مطر حمص« النظام صراحة كما فعل عندما تهكم على الربيع العربى و«سارقى الشعارات« كما أسماهم، ولم يشر بوضوح لهجمات النظام التى كانت أحد أسباب هدم مدينة حمص القديمة بهذا الشكل الذى نراه، وجعل أبو عبدالله وأعوانه من الميليشيات العسكرية الإسلامية المتطرفة هم المسئولون عن كل الخراب. وبالفعل يتناول الفيلم حكايات إنسانية من وجهة نظر المخرج، فهو صاحب العمل، ولم يدع أنه يقدم الحقيقة أو أنه يقدم فيلما وثائقيا، فلا أحد يملك الحقيقة وكل طرف لديه ما يريد قوله ولديه وسائله الإعلامية، على أمل أن تعكس المقارنات صورة أصدق عن الحالة السورية ونصل يوما إلى فهم أقرب للحقيقة.
***
بعد هذه المقدمة التى كان لابد منها لأننا لا يمكننا عزل السينما عن الحرب، أريد أن أتوقف بالأحرى عند أهمية المكان: مدينة حمص القديمة التى هى البطل الحقيقى للفيلم والتى تم التصوير فى بيوتها المهجورة بإذن من ملاكها، دون الاستعانة بديكورات داخلية. أطلال وركام وبساتين من الأشلاء و المقابر والأراجيح المعطلة، ما تبقى من المدينة من بلكونات مهدمة وحطام أبنية وبشر...سريالية المشهد التى برع فى إظهارها المخرج المهووس بالصورة والذى ينصر أحيانا الصورة على الحكى، فهى أحد أهم عناصر سرد الحكاية، يليها الصوت خاصة الموسيقى ثم الحوار. الشخصيات شديدة الالتصاق بالأمكنة وبالغناء والموسيقى، ترتفع هذه الأخيرة بين أصوات القصف والقنص والاشتباكات كتحدى للحرب ودليل على حب الحياة وتمسكهم بها، مثلما هؤلاء العرائس والعرسان الذين رأينا صورهم فى الصحف بلباس الفرح وهم يتجولون بين أنقاض حمص، وللمدينة لها ما لها من رمزية فى الثورة السورية.
***
أنقاض المدينة، التى تجعلنا نتخيل ما ستكون عليه نهاية العالم، لاتخلو من حضور عتيق وطرافة حمصية، هى تحمل روح المدينة وذكريات أهلها، ولها جمال تشكيلى خاص. الأجواء التراجيدية للأنقاض التى يتحرك بينها أبطال الفيلم لها قوة شاعرية تفوق الواقع: يارا الفتاة الثورية ذات الشعر المنكوش تبحث عن أخيها الجندى المفقود بصحبة أختها الطفلة التى لم يتعد عمرها خمس سنوات، يوسف ضابط الاحتياط الذى تم تسريحه من الجيش عندما أصيب بمرض السكرى وابن أخيه الصغير جاد، الأب إيليا كاهن الكنيسة الذى ينتظر حدوث معجزة تجعله قادرا على البقاء حتى يسلم مفاتيح الكنائس لمن سيأتى بعده، الجنرال الذى حارب فى السبعينات كطيار ضمن صفوف الجيش النظامى وصار اليوم أشبه بالدمية الهزلية... جميع الشخصيات بها ملمح من الجنون يقربهم من قالب الفانتزيا والعبث، جنون الرغبة فى حدوث معجزة، جنون من فقد كل شيء، جنون من ظل فى مدينة محاصرة حوالى خمس سنوات تحت زخات الرصاص، جنون من يتمسك بالحياة ويتعلق بقشة الحب كما فعلا يوسف ويارا، رغم اختلافاتهما السياسية، فقد كانا على النقيض ولا يطيق أحدهما الآخر فى البداية.
***
وسط فوضى الأنقاض طبيعى أن نجد الشيء وعكسه، طبيعى أن تكون هناك فرصة للبوح والنقاشات والاعترافات والقراءات المختلفة. وما يؤيد ذلك هو أن العنوان الأصلى للسيناريو الذى كتبته سهى مصطفى كان «وقت للاعتراف« قبل أن يغيره المخرج جود سعيد، ويستخدم رمزية المطر الذى كان يهطل على المدينة فى فترة الهدنة المتفق عليها بين أطراف الصراع لخروج المدنيين، من فبراير إلى مايو 2014، والتى صور الفيلم خلالها بالاتفاق مع الأمم المتحدة.
***
أغنية «كان يا مكان« لميادة الحناوى وبليغ حمدى ترتفع على لسان الأبطال المختلفين سواء يوسف أوالكاهن إيليا أو الجنود فى دشمتهم لتروى ما كان، ولتشحن الأشياء والأنقاض بعبق الماضى والذكريات. تتحول ساعة حمص فى الساحة الرئيسية للمدينة إلى رمز الوقت الذى تختزله الأغنية، وأحيانا كثيرة يشوب الفيلم برموزه وإشاراته بعض الافتعال. لكن يظل المكان هو الأقوى، هو بطل التناثر الدرامى، بطل اللامعقول، ببلكوناته التى تطل على العالم رغم فقدانها للكثير من أجزائها...أنقاض المدينة هى البطل بكل ما تحمله من شجن وعبث ووعود وذكريات.

التعليقات