«ها هو موقف فرنسا الواضح: نعم للسلام. نعم لأمن إسرائيل. نعم لدولة فلسطينية من دون حماس».. الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، أبريل 2025.
هذه التغريدة المختصرة تخفى خلفها سياسة، أو بشكل أوسع، مشكلة آخذة فى التفاقم داخل أوروبا نفسها. الدول التى تقود، حاليًا، الخطوة نحو الاعتراف بدولة فلسطينية؛ فرنسا، وإسبانيا، وأيرلندا، والنرويج، لا تفعل ذلك ضمن مسار سياسى عقلانى، بل نتيجة ضغوط سياسية داخلية: تظاهرات غاضبة، ساحة عامة تهيمن عليها أصوات مسلمة، وجامعات ذات توجهات متطرفة.
إن الاعتراف الأحادى الجانب من أوروبا بدولة فلسطينية أصبح فى الواقع بمثابة تهدئة داخلية، ولهذا السبب تحديدًا، فإنه يشكل خطًأ استراتيجيًا خطِرا. ولد بدافع ردة الفعل، لا من منطلق المسئولية. إنه نابع من الحاجة إلى الظهور بمظهر أخلاقى، لكنه يتجاهل العواقب المدمرة على أمن إسرائيل، واستقرار المنطقة، ومستقبل الشعب الفلسطينى نفسه.
•••
المحاولة الغربية للتمييز بين «الإرهابى الجهادى» و«المناضل القومى» من طراز منظمة التحرير الفلسطينية تعبّر عن فشل جوهرى فى فهم طبيعة الصراع. فى الواقع، لا يوجد فرق بين عقيدة «الهدنة» لدى «حماس» وبين «خطة المراحل» لدى «فتح»، فكلاهما ينبع من الاستراتيجية الأساسية نفسها: نضال مستمر، ومحسوب بعناية، وتدريجى، لا يهدف فى نهايته إلى اتفاق، بل إلى تدمير العدو الصهيونى.
يكمن مفهوم «الهدنة» فى صميم رؤية «حماس»؛ وقف مؤقت لإطلاق النار فى مواجهة عدو قوى، وهو ما يتيح إعادة التنظيم والاستعداد للمرحلة التالية من المعركة. تحدّث الشيخ أحمد ياسين، مؤسس الحركة، عن هذا فى تسعينيات القرن الماضى، وكرر هذا الطرح قادة كبار، مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية ويحيى السنوار. فالهدنة لا تمثل مطلقا نهاية للصراع، بل إنها مجرد توقف تكتيكى فى الطريق إلى الجهاد التالى، والذى يهدف إلى خداع إسرائيل وكسب الوقت.
أما «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية، اللتين تُعتبران فى أوروبا شريكًا «معتدلًا»، تتبنيان المفهوم نفسه تقريبًا. لقد تحدّث قرار المجلس الوطنى الفلسطينى فى سنة 1974 عن «خطة المراحل»: كلّ موطئ قدم يتم كسبه فى مفترق سياسى ما، سيُستخدم كأداة للاستمرار فى النضال حتى محو إسرائيل.
ياسر عرفات لم يخفِ هذه الطموحات. كذلك، وصف فيصل الحسينى الاتفاقات بـ«حصان طروادة»، واعترف بصراحة بأن الهدف لم يكن التعايش مع إسرائيل، بل استبدالها.
وفعلاً، فى أعقاب اتفاقيات أوسلو، قُتل أكثر من 1400 إسرائيلى فى هجمات «إرهابية»، أى ما يزيد 8 مرات عن عدد القتلى فى العقد الذى سبق الاتفاق. السلطة الفلسطينية لم تندد بذلك؛ بل مجّدته، وتم توزيع مئات الملايين من الشواكل على شكل «رواتب» لمنفّذى العمليات، وحتى عندما تعرضت السلطة لضغط أمريكى فى سنة 2025 من أجل وقف دفع الرواتب لعائلات منفّذى العمليات و«الشهداء»، لم توقف الممارسة، بل نقلتها ببساطة إلى مكتب الرئيس. استمرت المدفوعات بشكل مختلف، وأوضح محمود عباس بنفسه: «حتى لو بقى معنا شيكل واحد فقط، فسنواصل تقديمه لعائلات الشهداء».
كما يواصل نظام التعليم فى السلطة الفلسطينية، الذى يموّل الاتحاد الأوروبى جزءًا كبيرًا منه، ترسيخ رسائل تنزع الشرعية عن إسرائيل، وتمجّد «الشهداء»، وتُشيطن اليهود.
حتى فى الساحة العامة، لا تكتفى السلطة الفلسطينية بالفشل فى تعزيز خطاب معتدل، بل إنها، فى بعض الأحيان، تشجع مباشرةً على تنفيذ عمليات «إرهابية». فى يناير 2023، بعد المجزرة فى كنيس فى القدس، رفض محمود عباس، على الرغم من الضغوط الأمريكية لإدانتها، القيام بذلك، خشية أن يضرّ ذلك بمكانته السياسية.
• • •
فى الوقت الراهن، لا تستوفى الحالة السياسية الفلسطينية الشروط اللازمة لبناء دولة معتدلة/ أو مُحبة للسلام. تُظهر استطلاعات الرأى العام بشكل متكرر وجود دعم واسع للحركات الراديكالية والعمل المسلح.
الشخصيات التى تحظى بالثقة هى فى الأساس تلك المرتبطة بالكفاح المسلح، مثل مروان البرغوثى، المحكوم عليه بخمسة أحكام بالسجن المؤبد بتهم قتل، فى حين تُعتبر الشخصيات البراجماتية، مثل سلام فياض، ضعيفة، أو حتى «متعاونة» مع العدو.
ومع ذلك، يجب التنويه بأنه توجد إلى جانب الأغلبية الراديكالية أقلية مدنية ومعتدلة وصامتة. هناك مربّون، وطلاب، ورواد أعمال، وأكاديميون، ورجال أعمال يؤمنون بنهج مختلف يقوم على بناء المؤسسات والحوار وتحسين المجتمع من الداخل. هؤلاء ليسوا الأغلبية، ولا يملكون قوة سياسية، لكنهم موجودون، ويواجهون ضغوطًا من حماس، وأحيانًا من السلطة الفلسطينية. حتى الآن، هذه ليست معارضة فعالة، لكنها تشكل نواة محتملة يمكن من خلالها بناء قيادة ومجتمع وأمل.
حتى إذا تجاهلنا، مؤقتا، الخطاب العام والأيديولوجيا الراديكالية، تبقى هناك مسألة عملية: هل يوجد اليوم كيان فلسطينى قادر على إدارة دولة؟ الجواب، وفق كلّ معيار سياسى ومؤسسى واقتصادى، هو كلا.
منذ سنة 2007، يدير غزة والضفة الغربية كيانان متنازعان: «حماس» التى تسيطر على غزة كجسم إسلامى مسلح ومستقل؛ والسلطة الفلسطينية التى تسيطر على الضفة الغربية جزئيًا، بصلاحيات محدودة واستقرار هش. إن محاولات المصالحة بين هذين الفريقين فشلت جميعها، مرارًا وتكرارًا. لا توجد سلطة واحدة، ولا سياسة موحدة، ولا منظومة قضائية واحدة، ومن المؤكد أنه لا يوجد أمن مشترك على الأرض، ولا عنوان حكومى موحد، ولا فرصة واقعية لتحقيق الوحدة.
تعتمد ميزانيات كلّ من السلطة الفلسطينية و«حماس» بشكل أساسى على المساعدات الخارجية: من الاتحاد الأوروبى، ومن الدول العربية، وأحيانًا من منظمات خاصة. لا توجد منظومة ضرائب فعالة، ولا بنك مركزى مستقل، ولا سياسة اقتصادية منظّمة، وعندما يكون معظم الإنفاق العام قائمًا على التبرعات، فإن غياب المساعدات يعنى انهيار الكيانين بالكامل. وستكون الدولة التى قد تُقام فى مثل هذا الوضع كيانًا تابعًا بالكامل، وليست كيانًا مستقلًا يتمتع بالسيادة.
• • •
إذا كانت أوروبا ترغب فعلاً فى المساهمة فى إقامة دولة فلسطينية، فعليها أن تدرك أن إعلانًا أحادى الجانب فى الوقت الراهن لن يدفع نحو الحل، بل سيقوّضه. الوضع الحالى لا يوفر أى أساس لدولة ذات سيادة، وأى اعتراف متسرع لن يؤدى إلا إلى تفاقُم الفوضى. بدلاً من ذلك، ينبغى لأوروبا، باعتبارها الطرف المفترض أن يقود هذا الجهد، العمل على خلق الظروف الميدانية لبناء تدريجى لبنية تحتية سياسية، بالتعاون مع الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة.
العبرة من لبنان واضحة: لا يمكن أن تنشأ دولة ما دامت التنظيمات المسلحة تنشط إلى جانبها. لذلك، فإن الشرط الأساسى هو نزع السلاح الكامل من جميع الفصائل الفلسطينية، فى كلٍّ من غزة والضفة الغربية. من المرجح أن يتطلب هذا الإجراء دوراً لقوة دولية-محلية ومخصصة، ويجب تنفيذه تحت رقابة صارمة، وبالتنسيق مع إسرائيل، وضمن إطار متفق عليه لنزع السلاح السيادى.
المطلب الآخر يتعلق بالقيادة، القيادة الحقيقية لن تنشأ من مكاتب السلطة الفلسطينية، بل من طبقة مدنية عميقة: مهنيون، ورواد أعمال، وأكاديميون، شبان ونساء لديهم رؤية براجماتية قابلة للتطبيق. مثل هذه القيادة لن ينشغل أولاً بالصراع مع إسرائيل، بل ببناء مجتمع مدنى داخلى، وسوق عمل مستقرة، ونظام تعليمى، وإعلام، وخدمات صحية.
تستطيع أوروبا، بل يتوجب عليها، تمويل وتوجيه مثل هذا المسار، وربط المساعدات بالتقدم الفعلى فيه. لا يجب أن يكون هذا الهدف الانفصال عن إسرائيل، بل تطوير قدرة حقيقية على الاستقلال الإدارى ــ الاقتصادى.
أخيرًا، يأتى الوعى. ما دامت الأنظمة التعليمية والدينية والإعلامية الفلسطينية تروّج خطاب الكراهية، والتفوق، والضحية، فلن تنمو عقلية مدنية. يجب أن تخضع المدارس لإصلاح عميق. كذلك، يجب أن توضع المساجد تحت الرقابة، وأن يُفتح الإعلام أمام أصوات جديدة.
لا يمكن لأى مسار أن ينجح من دون دعم متواصل من الدول العربية المعتدلة. الأردن، ومصر، والمغرب، والإمارات، والتى يمكنها توفير إطار مكمّل يشمل دعمًا سياسيًا وتوجيهًا اقتصاديًا وصِلات استراتيجية مع العالم العربى. سيكون هناك حاجة إلى مشاركة أوروبية، ليس فقط من أجل مواجهة الضغوط وضمان نزع السلاح، بل أيضاً لمنح الشرعية للقيادة الجديدة التى تنشأ.
فقط بعد تحقيق كل ذلك، سيكون من المناسب البدء بالتفكير فى تسوية سياسية. ليس فى البداية، بل بعد بناء بنية تحتية أخلاقية وإدارية وعامة قادرة على الحفاظ على نفسها. تشمل الخيارات الممكنة: حكمًا ذاتيًا سياديًا تحت رقابة، أو فيدرالية إقليمية، أو شكلاً من أشكال الكونفدرالية. المهم هو ألّا تكون القرارات وسيلة لتنفيس الضغط السياسى، بل تشكل جزءًا من استعداد حقيقى للتغيير، ونزع السلاح، والرغبة فى علاقات حسن جوار وسلام.
أفيرام بلايش
مركز القدس للشئون العامة والسياسة
مؤسسة الدراسات الفلسطينية