الحديث مع الغرباء - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحديث مع الغرباء

نشر فى : السبت 3 يونيو 2023 - 9:35 م | آخر تحديث : السبت 3 يونيو 2023 - 9:35 م

منذ أرسطو وتحليل أى نص يمر بمسائل ثلاثة: من هو الشخص الذى كتب هذا الكلام؟ وكيف استخدم اللغة؟ وكيف فسره القارئ وماذا فعل به أو أضاف إليه خلال المطالعة؟ لذا كان دوما هناك من يقول إن أى كتاب يحظى بمؤلفين اثنين: المبدع والمتلقى، والقراءة ما هى إلا عملية تلاقى بين هذين القطبين. ترتسم إذا علاقة قوية ومباشرة بين غريبين أو أكثر من خلال القصص المروية أو الموضوعات المطروحة فى النص على اختلاف القوالب والأشكال.. يحدث تقاطع بين الخاص والعام، تبادل بين القارئ والمؤلف حتى لو توارت شخصية هذا الأخير وراء ما كتب. وأحيانا تعبر شهادات بعض القراء عن حجم التفاعل بين الطرفين، فيوضح مثلا أحدهم كيف غيّر كتاب أو مقال حياته ومدى تأثره به فيسعد المؤلف ويشعر بمردود ما يفعل، وتنشأ علاقة وثيقة بين غرباء، يتحادثون فيما بينهم، وفى أوقات كثيرة يسعى القارئ إلى معرفة المزيد حول الكاتب من خلال التعرف على شكله وصورته الملحقة بالعمل أو من خلال حضور الندوات والمناقشات على أرض الواقع، إلى ما غير ذلك.

علاقة شائكة تكون الغلبة فيها أحيانا لمن يمتلك ناصية اللغة ويجيد التلاعب بالكلمات والأسلوب، لكن شكلها لم يعد محسوما فى اتجاه واحد كما فى السابق لأن الإنترنت غير من طبيعتها وسمح بدرجة أكبر من التفاعل المباشر. صار المتلقى يعلق على المكتوب فى الصحف أو المنشور عموما، لا ينتظر بريد القراء الذى قد يخضع لنوع من الغربلة والفحص، بل يدلو بدلوه ويشارك برأيه على المواقع المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعى، فيما وصفه بعض الباحثين بأنه نوع من الديمقراطية التشاورية التى ترتكز على رأى المواطنين العاديين أو تؤدى إلى توافق على اتخاذ القرار.
• • •

مع بداية الألفية الثانية سمحت الصحف وغيرها من المواقع بوجود مساحة للتعليق على المادة المنشورة، وبضرورة الحال لم يعد القارئ هو هذا الشخص المجهول المتخيل، لم تعد صورته بالغموض نفسه، بل اتضحت معالمها أكثر فأكثر وازداد الحديث عن الثقافة التشاركية والقارئ ــ الفاعل. صار الكاتب أو الصحفى يعرف بعض القراء بالاسم، وبما أن هؤلاء يعلقون باستمرار على ما يكتب ويذكرون أحيانا بعض تفاصيل حياتهم فهناك فرصة لأن يكتشفهم هو أيضا، يستنتج سن أحدهم من ما يروى أو يفهم أنه يعيش فى أوروبا منذ فترة طويلة أو يستدل على توجهه السياسى... ينشر القراء مثلا أجزاء من موضوعات أخرى لا تتعلق بالضرورة بما هو مكتوب أعلاه، لكنهم يريدون الإشارة إلى أهمية هذا الحدث أو ذاك، يتعرضون إلى تجاربهم الشخصية، يتفقون أو يختلفون، وقد يتجاوز البعض قليلا أو كثيرا وهو يعبر عن رأيه. يصل الأمر أحيانا إلى حد السب والقذف أو التجريح والتعدى الصريح أو التحريض ضد فئة بعينها، ما أثار حفيظة القائمين على الجهات الإعلامية المختلفة الذين بدأوا بعد نحو عشر سنوات من ظهور الإنترنت فى حجب مساحة التعليقات وتناول حجم التناقض أو التعارض بين الثقافة التشاركية الجديدة وبين تقاليد العمل الصحفى التى جعلتهم ينفردون طويلا بدور حراس البوابات وصانعى الأخبار. شهدت الفترة ما بين 2010 و2020 العديد من السجالات حول منع التعليقات أو الاحتكام لها كقياس للرأى العام يسمح بدراسة المجتمع والتدقيق فى تطور ذائقة الجمهور. حجبت مواقع مثل السى إن إن وبلومبرج ورويترز مساحات التعليق، وفى الوقت نفسه تقريبا ألغت الكثير من الصحف الورقية باب «بريد القراء»، استنادا إلى أن هؤلاء يمكنهم المشاركة والتعبير من خلال وسائط أخرى.

وبهذا الصدد أجرت صحيفة الجارديان البريطانية العريقة دراسة اعتمدت فيها على 70 مليون تعليق تركهم القراء على موقعها الإلكترونى فى الفترة ما بين 1999 و2016، وأوضحت إدارة الجريدة أنها اضطرت إلى حذف 1.4 مليون تعليق خلال تلك السنوات بسبب تجاوزها، وأنها رصدت أسماء عشرة صحفيين كانوا الأكثر تعرضا للإساءة، بالتحديد ثمانى سيدات ورجلان من ذوى البشرة السمراء.
• • •

صارت مواقف الصحف تتأرجح ما بين الرغبة فى معرفة المزيد عن القراء وتشجيعهم على المشاركة والحوار حتى لو فتح ذلك المجال لمزيد من الشعبوية، والميل إلى الحجب حتى لا تفقد جزءا آخر من المتلقين يهرب من مثل هذه المواقف المعلنة والممارسات. ومن وقت لآخر تخرج علينا إدارات هذه الإصدارات بقرارات جديدة ومحاولات لتحسين أدائها، مثلما حدث مع بدايات أزمة الكورونا. انتهز البعض فرصة بقاء الناس فى المنازل، ووجود متسع من الوقت للقراءة، وعزوف فئة عن شراء الصحف خوفا من العدوى، لكى يعيدوا صياغة العلاقة بين الكاتب والمتلقى من خلال مجموعة من الأنشطة التى تم تنظيمها عن بعد والتى سمحت ببناء جسور الحوار والتواصل مع القراء، مثل عقد لقاءات مباشرة على الهواء لمدة ساعة حول موضوع معين بمشاركة عدد قليل من الصحفيين، أو إعلان جريدة مثل «لوموند» الفرنسية عن «مشروع الثقة» وهو بمثابة محاولة لتدعيم علاقة الصحيفة بقرائها. أوكلت للشخص القائم على هذا المشروع ضمن مهامه الكثيرة مراقبة 150 رسالة يومية من «بريد القراء»، يصل أغلبها عبر البريد الإلكترونى، يرد عليها ويتواصل مع أصحابها لكى يقف على آرائهم ومطالبهم، وبالتالى يمكنه مساعدة إدارة التحرير فى تحسين الأداء.

نقاشات عدة ومبادرات قد تكلل بالنجاح أو تبوء بالفشل، لكن يكفيهم شرف المحاولة، على عكسنا تماما، فرغم كل التحفظات حول مزاعم حرية الصحافة حول العالم فإنه لا وجه للمقارنة، فنحن أقرب إلى نموذج حوار الطرشان.

التعليقات