ظاهرة محمد الصغير - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ظاهرة محمد الصغير

نشر فى : الخميس 4 فبراير 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : الخميس 4 فبراير 2021 - 7:15 م

لم أكن من زبونات الكوافير الشهير محمد الصغير، فأنا بشكل عام أميل للتردد على كل من هم في جواري المباشر، وعندما أنظر إلى الأربعين عاماً الماضية أجد إنني قد تعاملت مع كوافير واحد غير مشهور، وعندما توفاه الله مؤخراً ورثَتني زوجته من باب الكسل رغم إن زوجها كان أشطر. وبحكم طول العِشرة مع الكوافير تولّد بيننا نوع من الثقة لكني أذكر الآن أنه كان كلما أراد تسويق مستحضر جديد من مستحضرات التجميل ووجدني مترددة في شرائه كان يبادرني بالقول: الكِرِيم ده بيستعمله محمد الصغير! يريدني بذلك أن أثق فيه ويقنعني بأن البضاعة ممتازة، وإلا فمن ذا الذي يمكنه أن يزايد على محمد الصغير؟ هكذا كانت علاقتي مع محمد الصغير هي علاقة بالواسطة، أعرفه ولا يعرفني، أقرأ أخباره أحياناً في الصحف وأتعجب من قدرته على حفظ تفوقه طوال كل تلك السنين رغم ظهور أجيال جديدة من الكوافيرات ودخول الأنامل اللبنانية مجال المنافسة بقوة على رؤوس النساء المصريات، وأكثر اللبنانيين "مِذوُقون"، وظل الحال على هذا النحو فلم أتمن لو أن علاقتي بمحمد الصغير كانت مباشرة إلا عندما رحل، فلقد كشَفَ ذلك الفيض من عبارات الثناء والمديح التي قيلت في حقه عن جوانب كثيرة كانت خافية في شخصيته، ولعلها المرة الأولى التي نصادف فيها مثل تلك العبارات المؤثرة عند رثاء كوافير... انتبَهت .
***
قالت لي صديقة تعامَلّت مع محمد الصغير سنين طويلة إنه غيّر الصورة الشائعة للكوافير، وتحوّل بهذه الصورة من كونها لشخص متطفل على الحياة الخاصة لزبائنه إلى شخص قليل الكلام يعرف حدوده جيداً ولا يتخطاها. التغيير الذي أشارت له صديقتي تغيير مهم فعلاً، وذلك أن هناك ميلاً لدى الكثيرين ممن يمتهنون هذه المهنة للثرثرة في أمور لا شأن لها بلون الصبغة وشكل القصّة وعلاج الشعر المجهد.. إلخ، والأرجح أنهم يظنون أن هذه وسيلة مضمونة للحفاظ على زبائنهم من خلال توطيد العلاقة معهم. وبدرجة يعتد بها من المبالغة قدّم لنا عبد السلام النابلسي شخصية الكوافير المتطفل من خلال دور زيزو الذي لعبه قبل أكثر من نصف قرن في فيلم "حلاّق السيدات"، ففي هذا الفيلم تدَخَل زيزو الحلاق لحل مشكلة زبونته أشجان مع مطلقها وعرض عليها أن تتزوج نكايةً فيه، فكان أن طلبت الزواج من زيزو نفسه وتعقدت الأمور. وبالتالي فعندما يأتي محمد الصغير ويكسر هذا النمط المنتشر ويقدم نمطه الخاص ونموذجه المختلف فإن هذا يفسر جزئياً مكانته التي لم يصل إليها كثيرون، وكل اختلاف يصنع الفرق. أما الجزء الآخر في تفسير شعبية محمد الصغير فلعله ينبع من أنه مارس مهنته بعقلية رجل الأعمال فكان أول من أدخل إلى السوق المصرية الكثير من مستحضرات التجميل الأجنبية وحصل على توكيلات من كبريات الشركات العالمية، شارك بتسريحاته المبتكرة في عروض الأزياء، وقيل إن الجمهور كان يصفّق عند ظهوره على المسرح بأكثر مما يصفّق لمصمم الأزياء. اشتغل كثيراً على نفسه فسافر إلى أوروبا وتعلم على أيدي كبار مصففيها وانفتح على الأفكار الجديدة، شارك في المهرجانات الدولية وحصد الجوائز وصنع اسماً لنفسه في مجتمع كالمجتمع الپاريسي الذي يصعُب جداً فيه أن يبرز أحد إن لم يكن من الفئة (أ). تحّول إلى مؤسسة ضخمة لها تقاليدها المحترمة وفروعها المنتشرة في كل مكان، ومن داخل هذه المؤسسة خرجت عدة أجيال تدين له بالفضل في صنع شهرتها. إن محمد الصغير أكبر من مجرد صانع للجمال وبالتأكيد أكبر من مجرد كوافير .
***
كتبَت صديقة أخرى على صفحتها إن آخر مرة التقت فيها محمد الصغير كانت عندما جاء يقدم لها واجب العزاء في أحد أفراد أسرتها، وقادتني هذه الجملة القصيرة جداً إلى ملمح ثالث من ملامح شخصيته وهو أنه كان مجاملاً من الطراز الأول أو كما وصفَته إحدى زبوناته فقالت: كان يجاملنا ويجمّلنا، وأعجبني هذا الوصف كثيراً، فإنه لذكاء بالتأكيد أن يجمع المرء بين قربٍ يسمح له بالمجاملة وبعدٍ يمنعه من التطفل. في كل الأحوال كان الرجل حاضراً يواسي ويهنئ ويسأل ويجامل حتى قيل إنه حين لزم أحد زبائنه الفراش داوم على إرسال من يقص شعره دون مقابل، كان يعرف إذن كيف يمد الجسور ويغزل العلاقات عبر الطبقات ويفتعل المناسبات السعيدة ليستضيف الكل في بيته. ولذلك فإنه حين غاب عن دنيانا كان طبيعياً أن يعيد غيابه تلك البراويز الضخمة المجللة بالسواد إلى صفحة الوفيات، وكانت تلك الظاهرة قد أوشكت على الانقراض مع ارتفاع الأسعار ووجود المنصات البديلة عبر وسائل التواصل. أسماء كبيرة لرجال ونساء ينعونه بصدق لا يضطرهم إليه إلا شعور حقيقي، فلا يوجد في حالة محمد الصغير ما يبرر النفاق .
***
يحب الناس عادة الشخص الذي يحقق حلمه بنفسه ولا يعتمد على أحد، وقد كان محمد الصغير من هؤلاء الحالمين، في حلمه شق خاص بأن يشم "رائحة البارفان بدلاً من رائحة البصل" كما قال ذات يوم، وفِي حلمه شق عام يدافع عن هذه المهنة في مواجهة طيور الظلام التي ما أن تحط في أرض حتى تبدأ معركتها مع رؤوس النساء، ومن داخل هذه المهنة مضي يطوّر ويغيّر ويستبدل تقاليد بتقاليد، فسلام علي روحٍ سكنت في الأعالي هي روح صاحب الحلم وصانع البهجة وجامع الضدّين: الصغير والكبير في شخص واحد.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات