مبتغيًا إجبار حماس على تقديم تنازلات تفاوضية، وتخيير الغزيين بين الهلاك أو الهجرة القسرية؛ ضاعف الاحتلال الإسرائيلى عذاباته للقطاع المنكوب. فبموازاة حرب الإبادة والتطهير العرقى التى يشنّها، بدعم أمريكى، منذ قرابة عامين؛ يمضى التجويع الممنهج على وقع اشتداد الحصار، وإغلاق المعابر، لمنع دخول متطلبات البقاء، منذ مطلع مارس الماضى.
ورغم اضطرارها لتمرير جزئى ومؤقت للمساعدات، الشهر الماضى، تمنع إسرائيل إدخال شاحنات الطحين والوقود؛ متخذة من مراكز التوزيع مصائد لقتل طالبيها الجوعى. ومن بين مئات القوافل المتدفقة إلى المعابر، لم يسمح الاحتلال إلا بدخول القليل منها إلى القطاع، الذى يحتاج ألف شاحنة إغاثة يوميًا لتلبية الحد الأدنى من احتياجات الغزيين، وفقًا لشبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية. ومع تدهور الوضع الإنسانى، توالت مطالبات مختلف الوكالات الأممية والمنظمات الدولية المتخصصة، بإعلان المجاعة رسميًا فى القطاع.
أقرّ «نظام التصنيف المرحلى المتكامل للأمن الغذائى»، الذى طورته الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية عام 2004، باعتباره آلية معتمدة دوليًا لتحديد درجة انعدام الأمن الغذائى، بناءً على مؤشرات كمية ونوعية موحدة؛ أن انتشار الجوع وسوء التغذية يتسببان فى ارتفاع معدل الوفيات بين 2.2 مليون غزّى، يكابدون «أسوأ سيناريو مجاعة».
ورغم ذلك، أحجمت الأمم المتحدة عن إعلان المجاعة رسميًا فى غزة؛ متذرعة بغياب البيانات الموثقة الكافية، والحرص على تحرّى السبل العلمية. وتدّعى المنظمة الأممية أن إعلان المجاعة لا يتأتى إلا فى حالات استثنائية، تتوافر لها معايير صارمة، غالبًا ما يستعصى استيفاؤها بالكامل فى ظروف النزاع المسلح. ولعل هذا ما يفسر عدم إعلان المجاعة أمميًا خلال العقدين الماضيين، إلا مرتين فقط على المستوى العالمى، كانت أولاهما فى الصومال عام 2011، وثانيتهما فى جنوب السودان عام 2017.
سياسيًا، تتجنب المنظمة الأممية الاصطدام بإسرائيل وحلفائها، لاسيما وأن إعلان المجاعة فى غزة يُعد إدانة صريحة لجرائم حكومة نتنياهو، كما يشكّل مناشدة أممية بضرورة مساءلتها بموجب القانون الدولى الإنسانى. لذلك، تكتفى المنظمة، حتى الآن، بإبداء قلقها، واعتبار الظروف الحالية أشبه بالمجاعة. ولا مراء فى أن تقاعس الأمم المتحدة عن إعلان المجاعة بقطاع غزة، بسبب إصرار الاحتلال الإسرائيلى على استخدام التجويع سلاحًا جيوسياسيًا؛ سينال من جدوى المنظمة الأممية، وصدقية النظام الدولى، وفعالية القانون الدولى الإنسانى، ومستقبل آليات الحماية الجماعية.
فى المقابل، سيمثل ذلك الإعلان اعترافًا بفشل الدبلوماسية متعددة الأطراف، خاصة بعد انكماش التمويل الأممى المخصص لمكافحة الجوع عمّا كان عليه قبل جائحة كوفيد-19.
بجريرة سوء إدارة فائض القوة الإسرائيلى، على نحو ما تجلى فى حرب الإبادة والتجويع على قطاع غزة، يوشك السحر أن ينقلب على الساحر، بحيث يجد الإسرائيليون أنفسهم منبوذين ومعزولين دوليًا. إذ تنشر وسائل الإعلام الإسرائيلية عشرات الحوادث الفردية، التى تشهدها مدن أوروبية شتى، ويتم خلالها طرد سياح إسرائيليين من مطاعم، حوانيت، ومعارض. ويتحدث الإسرائيليون عن إهانات تلاحقهم من سلطات حرس الحدود، وموظفى منح تأشيرات الدخول إلى بلدان عدة، فضلًا عن سائقى المركبات وموظفى الاستقبال فى الفنادق. كما تشكو الجامعات ومعاهد البحوث الإسرائيلية من الانكماش الحاد فى دعوة العلماء الإسرائيليين إلى المؤتمرات العلمية.
بدورها، منعت هولندا وزيرى الأمن القومى إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريتش، من دخول أراضيها، وذلك بجريرة تحريضهما على العنف ضد الفلسطينيين، ودعوتهما إلى التطهير العرقى فى قطاع غزة، وتشجيعهما التوسع الاستيطانى واحتلال أراضى دول الجوار. كما قررت الحكومة الهولندية استدعاء السفير الإسرائيلى لديها بغرض التوبيخ. من جانبه، تعهّد رئيس وزراء هولندا بأن تضغط بلاده، خلال جلسة للاتحاد الأوروبى، من أجل تعليق اتفاقية التجارة الأوروبية مع إسرائيل، وفرض قيود على صادرات الأسلحة إليها، إذا لم تلتزم بتعهداتها الإنسانية المتعلقة بتسهيل وصول المساعدات إلى غزة دون عوائق وبشكل آمن.
وللمرة الأولى، أدرجت الوكالة الوطنية الهولندية للأمن إسرائيلَ ضمن قائمة الدول التى تشكّل تهديدًا للبلاد، منددة بالمساعى الإسرائيلية للتأثير على الرأى العام، وصناعة القرار السياسى فى هولندا، من خلال نشر أكاذيب ومعلومات مضللة.
وبعدما اعترفت بالدولة الفلسطينية، فى يونيو الماضى، فرضت سلوفينيا حظرًا على صادرات، واردات، وعبور الأسلحة لإسرائيل، بعد أسبوعين من إعلانها وزيرين إسرائيليين شخصين غير مرغوب فيهما.
وبعدما أعربت دول عدة فى الاتحاد الأوروبى عن استيائها من عدم وفاء دولة الاحتلال الإسرائيلى بالتزاماتها الإنسانية المتعلقة بعدم إعاقة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، عقدت المفوضية الأوروبية جلسة، ناقشت خلالها توصية بتعليق جزئى لوصول إسرائيل إلى برنامج تمويل الأبحاث العلمية «هورايزون 2020»، الذى يعد أضخم برنامج تعاون بحثى علمى على مستوى العالم. وطالبت المفوضية حكومة نتنياهو بتقديم خيارات ملموسة لمعالجة المأساة المروعة.
فى الأثناء، يتزايد القلق الإسرائيلى من توالى مبادرات منظمات دولية عديدة بشأن تجميد عضوية تل أبيب فى «فيفا»، وفعاليات رياضية مختلفة، فضلًا عن مسابقة «اليوروفيجن» الغنائية الأوروبية.
فى الأثناء، حذر نمرود نوفيك، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل، شمعون بيريز، من «تسونامى دبلوماسى» يجتاح إسرائيل، إثر تنامى الدول التى تنوى الاعتراف بدولة فلسطينية. ففى ختام «المؤتمر الدولى رفيع المستوى لتسوية القضية الفلسطينية بالحلول السلمية وتنفيذ حل الدولتين»، الذى استضافته الأمم المتحدة الشهر المنقضى، أطلقت فرنسا و14 دولة، من بينها كندا وأستراليا، ما سمّته «نداء نيويورك»، الذى يدعو دول العالم كافة للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
فيما أبدت كل من بريطانيا، مالطا، فنلندا، والبرتغال استعدادًا جادًا لهذا الأمر، أثناء الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة فى شهر سبتمبر المقبل. ودعا المؤتمر إلى اتخاذ «خطوات ملموسة»، «لا رجعة فيها»، و«وفق جدول زمنى محدد»، لتنفيذ حل الدولتين، فى أسرع وقت ممكن، بحيث تنشأ دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة، متماسكة جغرافيًا وديمغرافيًا، وقابلة للحياة.
تتفاقم الانتقادات لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، خاصة المجتمع اليهودى الأمريكى؛ جراء إطلاق العنان لإرهاب المستوطنين فى الضفة، وتوحش سياسة التجويع داخل قطاع غزة. ووفقًا لاستطلاع رأى أجرته مؤسسة «جالوب»، الشهر المنقضى، هوت نسبة تأييد العدوان الإسرائيلى على غزة بين البالغين الأمريكيين من 60% إلى 32%. كما بات 52% من الأمريكيين ينظرون إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى بشكل سلبى، لأول مرة منذ 28 عامًا. وهو أعلى تقييم سلبى تلقاه نتنياهو منذ انضمامه إلى استطلاعات «جالوب» عام 1997.
بدورها، حمّلت «الحركة الإصلاحية»، وهى أكبر طائفة يهودية داخل الولايات المتحدة، الحكومة الإسرائيلية مسئولية تفشى المجاعة المروعة فى غزة.
تعجز دولة الاحتلال الإسرائيلى، اليوم، عن استثمار سردية «معاداة السامية» لتفنيد الانتقادات العارمة التى تلاحقها. إذ أعلنت هيئة عائلات أسرى الاحتلال لدى حركة حماس، أن إسرائيل ستدفع ثمن الخراب الأخلاقى الذى تحدثه فى غزة لأجيال قادمة.
وبينما اعترف الكاتب الإسرائيلى ديفيد جروسمان، بأن عدوان جيشه على قطاع غزة «إبادة جماعية»، انتقدت الكاتبة الإسرائيلية أورلى أزولاى، إدارة ترامب وحكومة نتنياهو بجريرة تحويلهما غزة إلى مسرح لتجربة الأسلحة الجديدة وتجويع الأبرياء. واعتبرت أجواء العزلة والعداء التى تحاصر الإسرائيليين حول العالم، فى الوقت الراهن، «ردود أفعال لانتهاكاتهم المخزية، وليس معاداة للسامية».
وبعد تجاهل دام قرابة عامين، تخللهما تماهٍ تام مع مزاعم المؤسسات الرسمية، لجهة «حق الدفاع عن النفس»، بل تحريضها الممنهج على الفتك بالغزيين؛ بدأت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، أخيرًا، تنتقد الممارسات المشينة فى غزة، لا سيما الإبادة والتجويع.
وفى تطور مثير وغير مسبوق، دعت طائفة من الشخصيات العامة الإسرائيلية البارزة، تضم أكاديميين، فنانين، ومثقفين؛ المجتمع الدولى، إلى فرض «عقوبات قاسية» على حكومة نتنياهو، على خلفية جرائم الحرب والتجويع الممنهج للفلسطينيين. وتنطوى تلك الدعوة على دلالات بالغة الخطورة. فعلاوة على كونها تشكل إدانة صريحة للسياسات الإسرائيلية الخرقاء؛ فإنها تقتحم تابو تحريم تأييد العقوبات الدولية على بلد مارق، طالما تفنّن فى وضع قوانين صارمة وجائرة لملاحقة من يغرد خارج السرب.