حسن عيسى وشيمون بيريز - شريف عامر - بوابة الشروق
الإثنين 4 أغسطس 2025 9:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

حسن عيسى وشيمون بيريز

نشر فى : الإثنين 4 أغسطس 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الإثنين 4 أغسطس 2025 - 7:05 م

لا يمكن لأى «آدمى»، كما يقول الإخوة اللبنانيون، أن ينجح فى تفادى صور الدم والجوع القادمة من غزة، وبالتأكيد، بحكم العمل، والطبيعة، وخبرة العمر، لا يمكن للإجازة أن تفرض حصارها وتعزلنى عن نفس الصور. الفارق أنها تستدعى صورًا أخرى كنت أشغل مساحة منها.

 


• • •
مايو ١٩٩٦، مطار القاهرة الدولى، والاتجاه إلى الطائرة يمر عبر ضابط جوازات أبدى قدرًا من الاندهاش لصغر سنى نسبيًّا، وجواز سفر المهمة، والوجهة. «أيوه، أنا مراسل قناة النيل للأخبار، ومكلَّف بالسفر إلى القدس». كنت أتعجل الجلوس وحيدًا لمراجعة تعليمات كثيرة ضاق بها عقلى. «ما حدش حيكلّمك وإنت داخل، لكن جلسة الاستجواب وإنت خارج». طاقم من ٤ إلى ٦ أفراد سيقوم بمتابعتك طول الوقت.
• • •
مهمتهم الفرز، وإعداد ملف كامل عنك. احتمال تبقى فى يوم من الأيام شخص ناجح أو بارز فى مجالك، ولازم يبقى عندهم (بروفايل) مفصل. «لا تفقد هدوءك أبدًا، لكن كن واضحًا وشديد الحسم فى الوقت نفسه، ولا تمرر ولو شبهة إهانة أو استخفاف».
• • •
مصدر هذه التعليمات/الإرشادات، واحد من أقرب أصدقاء أبى إلىّ، عمى السفير حسن عيسى، رحمه الله. الاسم الأول الذى نطق به أبى فور سماعه قرار موافقتى على تكليف أساتذتى أصحاب الفضل علىّ، الأستاذ حسن حامد، والأستاذة سميحة دحروج، بسفرى إلى القدس كأول مراسل مصرى ينتمى إلى اتحاد الإذاعة والتليفزيون فى الضفة الغربية. وكان التقليد المتعارف عليه أن نستعين بمراسلين وصحفيين من الإخوة الفلسطينيين هناك.
• • •
أعلن منير عامر أنه لا يريد سفرى لهذه المهمة؛ لا يطيقها كأب يخاف على سلامة ابنه الشخصية أولًا، ولا بمشاعر الكره المعتادة لكل ما ارتبط بهذا الكيان المسمى «إسرائيل» ثانيًا. لكنه أتبع رفضه بالتأكيد أن القرار لى وحدى بشرط: «اقعد مع عمك حسن الأول». وهو ما كان فى نيّتى أول خطوة سأقوم بها دون تأخير.
• • •
امتد اللقاء مع عمى حسن أربع ساعات. جلست أستوعب التفاصيل التى منحها لى الرجل الذى لعب دورًا مخابراتيًّا فى مواجهة إسرائيل، ورأس أحد وفود التفاوض فى محادثات طابا، ثم قنصلًا عامًّا فى إيلات، ثم رئيسًا لإدارة إسرائيل فى الخارجية المصرية.
• • •
ماذا سيفعلون عند دخولي؟ ماذا سيفعلون خلال فترة وجودى هناك؟ من سيظهر أمامى بصفة دائمة؟ من سيظهر ويختفي؟ طبيعة الشخصيات ومواصفاتها؟ ما الفارق بين أن تكون فى القدس أو رام الله أو غزة؟ كيف تتفاعل مع العسكرى الإسرائيلى على الحاجز؟ إذا دار نقاش، فما هى الموضوعات التى سيوجهون فيها الحوار؟ كيف أرد؟ ما المفردات التى يجب علىّ استخدامها؟
• • •
أكاد أجزم اليوم، بعد مرور ثلاثة عقود، بأن دقة ما قاله لى هذا المصرى العظيم عمى حسن، لا يمكن أن تكون مصادفة! هل كنت أنقل رسائل مثلًا؟! التطابق مع ما قال إنه سيحدث لا يمكن تصديقه!
أسترجع هذه الصور من الذاكرة كلما وقعت عينى على خبر يخص الدور المصرى فى القضية الفلسطينية، أو أتعامل أنا من خلال العمل مع خبر أو حوار.
• • •
كل ما يُقال أو يُكتب أو يتردّد عن فلسطين، وعن التعامل مع «القضية» كوم، وكيف يتعامل معها المصريون شعبًا وأجهزة «كوم تانى». رصيد من الخبرة المباشرة، والتراكم، والمعرفة، لم يتحقق من خلال تقارير أو أوراق ومذكرات رسمية، سرية أو علنية. رصيد تحقق من خلال معايشة، وتركيز، وفهم، وتعامل، واحتكاك مباشر يجعله منقطع النظير.
• • •
سألت زميلى المصوّر المقدسى يومًا ونحن على الحاجز: «كيف تتحدث مع الجندى الإسرائيلى، وأراك تبتسم أحيانًا؟!» «أزور أختى وأمى على مسافة ثلاث نواصى من بيتى. لو منعنى، هزمنى، ولو مررت، انتصرت. انتصارات بسيطة لن تفهمها أنت».
لهجته الفلسطينية فى ختام رده ما زالت ترنّ فى أذنى كأنها منذ ساعتين: «بنبتسم لبعض، لكن بعطيه ضهرى بيقتلنى، وهو بيعطينى ضهره بقتله».
مشهد واحد من مشاهد ربما أحكيها لاحقًا. مشاهد لن يمكن فهمها أو إخضاعها لأى منطق نفكر به، لكنها حياة الفلسطينى العادية جدًّا، وفى أفضل أحوالها.
• • •
آخر ما قاله لى عمى الحبيب - رحمه الله وكل من نفتقد - فى ختام لقاء الساعات الأربع: «شريف، أهم حاجة: ما تنساش أبدًا إنت فين، وجاى منين. مهما بدا الظرف والموقف عاديا أو حتى فيه بعض الود. أنا كنت بأقعد (أشيش) مع شيمون بيريز مرة ولا مرتين فى الشهر، لكن فى كل دقيقة، كان هو يعلم، وأنا أعلم أننا فى مواجهة محتومة، وهى متعددة الأوجه والأدوات».
نفس منطق زميلى المصور الفلسطينى!
صورة أو صورتان فقط قفزتا إلى الذهن، تجعلان كل ما يلف الإنترنت من مزاعم تقلل من مصر، هراء، حتى لو عاش يومين إلكترونيًّا.

التعليقات